الوزير الحلبي :” يمكن استلهام الكثير من كتابه “مسيرة ورهان” الأكاديمي الذي لا يساوم على مبادئه حتى لو اصطدم بكل قوى الأمر الواقع”
وقع الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء والعميد المؤسس لكلية العلوم الطبية في الجامعة اللبنانية البروفسور منير أبو عسلي ، كتابه ” مسيرة ورهان ” في القاعة الكبرى لنقابة الأطباء في بيروت ، برعاية وزير التربية والتعليم العالي الدكتور عباس الحلبي ، وحضور وزير الشؤون الإجتماعية الدكتور هكتور حجار ، وجمع من الشخصيات الأكاديمية والتربوية والإدارية والفكرية والإجتماعية . وسبقت التوقيع ندوة تولى إدارتها المستشار الإعلامي لوزير التربية ألبير شمعون ، الذي قال في كلمته عن أبو عسلي: :” أن تذهب في بلوغ أهدافك إلى آخر الطريق غير آبه بالصعوبات مهما كان حجمها ، وأن تجرؤ على أخذ المواقف الحق ، عندما يكون ما تقوم به هدفا لخدمة التربية وإعلاء صروح المعرفة ، وأن تكون مستعدا لتلقي الصفعات والإصرار على الوقوف مجددا ومتابعة المسيرة ، وأن تراهن على الخير وعلى القماشات المبدعة من الموارد البشرية في كل ميدان ، فأنت من دون شك البروفسور منير أبو عسلي.
أنا واحد من الذين يدّعون معرفتك جيدا ، وأخشى أن أقع في الإفتتان بشخصك وقيادتك فأخسر بعضا من الموضوعية . فأنت الصبي الذي أصر على التفوق خشية خسارة فرصة التعليم منذ الصف الثالث الإبتدائي ،لعدم قدرة الوالد على تحمل نفقات التعليم ، وأنت الذي يعي أهمية وجود المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية للدراسة والتفوق والحصول على المنحة الخارجية والتخصص والتدريس في كلية العلوم ، وتولي الإدارة والعمادة وتأسيس كلية العلوم الطبية وطب الأسنان والصيدلة ، والإنتقال إلى رئاسة المركز التربوي للبحوث والإنماء حيث خضت التحدي الكبير في قيادة ورشة وضع المناهج التربوية والكتب المدرسية وإعداد المعلمين وتدريبهم.
لا يتسع الوقت للتحدث عن الإنجازات والمرارات ، لكنني وجدت جزءا من نفسي في مسيرتك ورهانك ، فأنا لم أكن أصنع التاريخ لكني أسهمت إلى جانبك في كتابة تاريخ التربية في لبنان . إذ أن ورشة إعمار الحجر في تلك المرحلة ، واكبتها ورشة بناء البشر ، ومن هنا بدأ استهدافك” .
الوزير الحلبي :
الكلمة الأولى في الندوة كانت لراعي المناسبة وزير التربية والتعليم العالي الدكتور عباس الحلبي الذي قال :
لم أكن أعرف منير أبو عسلي شخصياً، ولكن صيته كان قد ذاع في أنه وضع اللبنة الأولى لإصلاح قطاعي التربية والتعليم. وفي أول إطلالة لي مع الإعلامي المتميز مارسيل غانم غداة تسلمي حقيبة التربية، ذكرت في برنامجه “صار الوقت” أنني لا بد لي من الاستعانة بخبرة أبو عسلي في عملية تطوير المناهج وهي التي لم تخضع للتعديل منذ خمس وعشرين سنة ووضعتها أولوية في برنامجي في وزارة التربية والتعليم العالي.
وهكذا عاد منير أبو عسلي وهو المقيم في أبو ظبي ليضع نفسه وخبرته في تصرف وزير لا يبغي إلا إحداث فرق في معالجات ملفات التربية والتعليم لأنهما العنوان اللذان يبقيان صورة لبنان بهية ومشرقة.
فشكراً لك صديقي على تصديقك لمرام الوزير وإيمانك بوطنك، فعدت وسخرت معارفك وخبرتك في سبيل أجيال لبنان. واليوم تتحفنا بإطلاق “مسيرة ورهان”، فلا يمكن تناول هذا الكتاب الجامع لتجربة تربوية عريقة من دون الحديث عن منير أبو عسلي. شهادتي تختلط بالعلاقة التاريخية مع اسم له بصمات طبعت التربية ورفعت اسم لبنان عالياً، وايضاً بالمسؤولية التي نتولاها اليوم ونسعى لأن تكون التربية رافعة لنهوض البلد. وقد اخترنا في ورشتنا الوطنية البروفسور منير أبو عسلي ليكون سنداً لنا كمستشار لوزير التربية والتعليم العالي للشؤون التربوية، لما يتمتع به من خبرات وطاقات وقدرات، وهو الذي قاد عملية صنع المناهج في العام 1997 وحقق انجازات كبرى بالرغم من الصعوبات وما تلا تلك المرحلة من اختلالات أفقدت هذا العمل التاريخي الكثير من رصيده.
كتاب “مسيرة ورهان” يروي حقائق أرادها منير أبو عسلي أن تكون متاحة للراي العام، ولأهل الخبرة والنخب المهتمين بالتربية وللناس الذين لم يواكبوا تلك التجربة الغنية في صناعة المناهج، والتي نريد من خلالها أن نستفيد عبر التقييم معه لنتمكن من دفع ورشتنا الحالية للمناهج إلى الأمام. مسيرة هذا الرجل الذي يرويها في كتابه فيها الكثير من الشفافية بلا ادّعاءات. هي الثقة التي يقدمها في عملية بناء الذات وفي التقبل والسماح. فرادته في طرح التجربة بإخفاقاتها ونجاحاتها يجب أن تصبغ العمل التربوي وهو المحارب من أجل التربية والتعليم في كل المواقع التي تولى مسؤوليتها وأسس فيها، خصوصاً في المركز التربوي للبحوث والانماء الذي تولى رئاسته من العام 1994 وحتى مطلع العام 1999، وقبل ذلك في الجامعة اللبنانية وتحديداً في كلية العلوم الطبية.
رفع منير أبو عسلي شعار “وبالتربية نبني”، وهو عنوان القسم الرابع من كتابه. البناء التربوي واصلاح التعليم طبعا مسيرته، وشكلا القاعدة الأساس لرهانه التربوي في عملية اعداد المناهج. كان لبنان قد خرج مطلع 1990 من حروبه الأهلية فكانت تلك المرحلة صاخبة بكل المقاييس وتحتاج عملية النهوض إلى الكثير من الجهد، لا سيما في المجال التربوي. حمل منير أبو عسلي القضية وراهن بشجاعة على امكان النهوض، فاتّبع سياسة الانفتاح على المؤسسات التربوية الرسمية والخاصة الجامعية والمدرسية كافة وعلى أهل التربية والتعليم، فكانت خطة النهوض التربوي التي شكلت صدمة إيجابية، وأول ما واجهه تحت عنوان “إعمار البشر” الكثير من الشكوك والتساؤلات، فكان لا بد، وهو ما يذكره في كتابه، من اشراك كل طاقات المجتمع التربوي من أجل النجاح، فوضعت اللبنة الأولى في البناء التربوي أي الهيكلية الجديدة للتعليم في لبنان.
يمكن استلهام الكثير من تجربة منير أبو عسلي في كتابه “مسيرة ورهان”. الاكاديمي الذي لا يساوم على مبادئه ويمارس قناعاته لمصلحة التربية حتى لو اصطدم بكل قوى الامر الواقع. هيكلية التعليم كانت بالنسبة إليه تعكس وفاقاً تربوياً وطنياً، والاصلاح التربوي هو اساس كل اصلاح واعمار. في اعداد المناهج حدد ثوابت وحوكمة وديناميكية لصناعة القرارات التربوية الجامعة، عبر تأمين مشاركة جميع الفاعلين في الحقل التربوي في اطار هيكلية تنظيمية واضحة. هكذا تمكن منير أبو عسلي من تحويل المركز التربوي الى طاولة حوار وطني، والعمل تحت سقف وثيقة الوفاق واعتماد الشفافية في القرارات وايصال الانتاج التربوي الى الأسرة التربوية كلها.
نستلهم من تجربته التي يرويها في ورشتنا للمناهج. نقيّم ما واجه منير أبو عسلي وهي وقائع يدوّنها بدقة، إن كان في تأليف لجنة مادة التاريخ، ولجنة مادة الفلسفة في شكل مستقل، ومطالب تعليم الرياضيات باللغة العربية. نحن نشرك كل المؤسسات التربوية في نقاشنا اليوم للاطار الوطني للمناهج، كما عمل منير أبو عسلي عند رئاسته للمركز التربوي في إشراكها لتقييم مسودة المناهج. نسعى إلى إنجاز مناهج جديدة بعد نحو 25 سنة على إصدار مناهج 1997 وإنجاز كتبها المدرسية الوطنية الجديدة، والنظام التربوي الجديد في العام الدراسي 1998- 1999، ونعمل على أن تكون مواكبة للحداثة والتطور التكنولوجي والرقمي، وفي الوقت ذاته نهدف إلى جمع كل المكونات للتوافق والاتفاق على الهوية كما كرسها الدستور وتسوية الخلافات التي لا يجب أن تطغى على التطوير التربوي.
قرأت في كتاب “مسيرة ورهان” ما حدث مع منير أبو عسلي في 1998 باعفائه من مهماته، وهو يصف هذه المرحلة بالكيدية السياسية ويتساءل عمن يعيد الاعتبار لموقعه ولدوره واسمه. أقول له من موقعي وباسم كل التربويين أن لا أحد يستطيع أن يلغي انجازاته ولا دوره واسمه يبقى ناصعاً في المسيرة التربوية، فها هو اليوم يسند ورشتنا الوطنية للمناهج بخبراته وطاقاته وقدراته الاكاديمية، لا بل يؤدي دوراً مركزياً فيها، ولا نقبل باستهدافه طالما أنه يرفض تحريف مسار الاصلاح التربوي، فهذه العملية مع اعداد المناهج بالنسبة إليه وإلينا أيضاً في حاجة إلى تطوير مستمر بلا أجندات وبعيداً من التدخلات السياسية.
قبل أن يكون منير أبو عسلي رئيساً للمركز التربوي للبحوث والإنماء، لم يتوان ولم يتراجع عن مبادئه في كل المواقع التي تولى مسؤوليتها. وقف في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية دفاعاً عن استقلالية القرار الاكاديمي. أسس كلية العلوم الطبية في الجامعة وواكب رحلتها لسنوات من التأسيس. ثم ورشة اعداد المناهج التي شكلت امتحاناً لقدرة اللبنانيين على الحوار والعمل معاً، وكان لمنير أبو عسلي الدور الأساسي فيها لا بل المحور في تأسيس ثقافة متجددة وممارسة لتحديد الهوية والانتماء ضمن مناخ الانفتاح القائم على المساواة والحرية والديموقراطية.
أعرف منير أبو عسلي، ليس فقط بما يمثله تربوياً وأكاديمياً وبصفته مستشارنا للشؤون التربوية. وأنا على ثقة راسخة أنه حين قاد خطة المناهج والنهوض التربوي كان يسعى للشروع في تطبيق نظام تربوي متكامل له مرتكزاته الفلسفية وأبعاده وأهدافه الوطنية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. ونحن اليوم نطمح لأن نبني نظاماً تربوياً يجيب عن كل الأسئلة خصوصاً أي مواطن نريد وأي مجتمع وأي وطن؟
كتاب منير أبو عسلي ليس للدفاع عن نفسه ولا للوجاهة، هو يمنحنا جرعة أمل من الشجاعة ويعطينا في كل تفاصيله أمثولة للارتقاء إلى مستوى الشأن العام. أقول هذا الكلام وتلفتني كل معاني التقبل والسماح والثقة، هو يرتفع فوق كل الصغائر بلا ضغائن بالرغم من كل ما تعرض له كشخصية تربوية رائدة تمكنت من جمع أكثر من أربعمئة من العاملين في الشأن التربوي لاعداد مواد المناهج، وهو لا هم له سوى خدمة التربية والوطن.
منير أبو عسلي الذي خاض غمار الاصلاح التربوي، استهدف بما سمي حركة الاصلاح الاداري في عام 1998. كيف يمكن أن يوضع هذا الشخص بالتصرف وهو الذي شكل ظاهرة استثنائية في العمل العام. يهمني في هذا الاطار التأكيد على أن اعتبار منير أبو عسلي لا تهزه قرارات كانت اتخذت في عتمة حالكة السواد. تجربته الوطنية في المركز التربوي تبقى رائدة بكل المعايير، وهي أُجهضت لأنها تؤسس للمستقبل التربوي وتهدف إلى انشاء جيل لبناني مستقل وتحفز على التفكير النقدي … وما أحوجنا اليوم إلى خطة نهوض تربوي جديد وروحية خلّاقة واصيلة من أمثال هذا الرجل المقدام.
يهمني التأكيد في هذه المناسبة أننا برفقة منير أبو عسلي نتقدم بخطوات ترتكز على قاعدة صلبة، لإنجاز مناهج جديدة، وتلقف كل جديد يساهم في إغناء الاطار الوطني لمناهج التعليم ما قبل الجامعي، ومواكبة التحديث في التربية بكل شفافية، ووضع طرائق جديدة في كل مراحل التعليم. وأؤكد أن عملية اصلاح التعليم ستستمر ومعها تطوير المناهج.
تحية لمنير أبو عسلي وكل الشكر على مسيرته المستمرة معاً لرفع شأن التربية كسبيل للخلاص.
النقيب أبو شرف :
وتحدث نقيب الأطباء في لبنان البروفسور شرف أبو شرف فقال :
“حيّ الأحبةَ من قاصٍ ومن دان
تحيةً هي منّي كلُ إيماني
حيّ العميد إذا ا ما شئتَ في بلدٍ
وجهًا للبنان، هذا وجه لبناني”
منير أبو عسلي اسم يُغني عن الكلام. فمنير عند جبران مسعود في “الرائد” مشرق يبعث النور ويرسله، وعسل هو طيب الثناء على الرجل… ف إسمك بيحكي عنك يا عميد.
عرفته عميدا لكلية الطب التي عمل على تأسيسها في الجامعة اللبنانية. والتقيته اول مرة في بداية التسعينات من القرن الماضي فور عودتي من ستوكهولم السويد حيث أمضيت زهاء عشرين سنة درست خلالها الطب في جامعة كارولينسكا وتخصصت في امراض القلب عند الأطفال، ومارست عملي في مستشفياتها الجامعية ، ثم عدت الى لبنان بعد انتهاء الحرب لأشارك في النهضة العلمية. وكان لبنان يفتقر الى اختصاصي. فقابلت العميد ابو عسلي وتقدمت بطلب تدريس مادة امراض القلب عند الأطفال في الجامعة. وقبل طلبي.
اذكر جيدا انه حدّثني عن تطلّعاته إلى النهوض بالكلية وعن علاقته بوالدي لويس أبو شرف رئيس لجنة التربية النيابية لعقدين من الزمن ، والمشاريع والقوانين التربوية التي عملا عليها، ولم يتوان ابو شرف يومها عن مساعدة وقوننة وضع طلاب كلية الطب في المعهد الانطوني.
عندما نقرأ “مسيرة ورهان”و الأعمال التي قام بها منير ابو عسلي في مجال الجامعة اللبنانية نشعر بالاعتزاز والتقصير معًا والاعتذار لعدم أيفائه الحق الكامل.
فقد أثبت هذا المناضل عن جدارة في كل ما قام به اننا قادرون أن نبقي لبنان جامعة الشرق بالالتزام العلمي والوطني والأخلاقي ضمن اطار الدولة. وآمن ان التخلف ليس قدرًا بل مسؤولية وأن التقدم انجاز يبدأ بالعلم وأبداعات الأدمغة الرؤيوية، وأن لا خلاص لنا إلا بالتربية. ها هو ينتفض ضد الفساد و يناضل من أجل ديمقراطية التعليم ومن أجل انشاء الكليات التطبيقية وترسيخ الجامعة اللبنانية وازدهارها. وتطوير مؤسسات يفتخر بها لبنان في ظروف الحرب المدمرة وغياب الدولة وسيطرة الميليشيات. ويتولى رئاسة المركز التربوي للبحوث والانماء ،ويقود أوسع ورشة للنهوض التربوي.
وفجأة وفي ليلة ظلماء يوضع بالتصرف من قبل مجلس الوزراء في 13 كانون الثاني 1999. هذا جزاء من تصدر مسيرة الاصلاح والبناء التربوي في دولة القانون والمؤسسات.
تذكرت يومها نصيحة أسداها أحد حكماء الصين لأحد الأباطرة بخصوص حملاته العسكرية. قال له ذاك الحكيم: اذا أردت يا سيدّي الأمبراطور احتلال أو تدمير بلدٍ من البلدان، فلا حاجة لك في أن تشنّ عليه حربًا دامية لسنوات طويلة، ولا أن تفتك بالأرواح والعباد فيه. هناك سبيل بسيط لا يكلفك شيئًا. يكفي أن تدمر نظام هذا البلد التربوي والتعليمي، وتعمم الفساد في ربوعه. ومن ثم ننتظر تقريبًا، عشرين عامًا. فسترى اذّاك بلدًا بنوه جهلة، ويقوده سارقون، وعندها فقط ستدرك ان الطريق بات مفتوحًا أمامك لتسحق هذه البلاد، وتُحكم قبضتك عليها بمنتهى السهولة.
خطر ببالي هذا الكلام، مع عودة التداول بالتكهنات التي ترسم مصيرًا أسود لبلدنا ، وتحديدًا عندما يتظهّر للعلن ما ضمرته الطبقة الحاكمة للقطاع التربوي والصحي والاقتصادي المالي والسياحي اللبناني ، عبر خنقها تربويا وصحيًا وماديًا واجتماعيًا وشل أداتها ا النقابية والاساءة إلى سمعتها ا عبر خلق صورة نمطية مشوّهة عنها.
بالرغم من كل الصعوبات، لقد حافظت الجامعة اللبنانية على مستوى تعليمي عال (بشهادة سوق العمل الذي يفتش عن خرّيجيها لتوظيفهم) بفضل طلابّها العصاميين الذين يكدّون ويعانون الأمرّين لتحقيق طموحاتهم، وبفضل معظم أساتذتها المتفانين والحريصين على الجامعة.
أن الجامعة الوطنية، كبقية القطاعات ،تمر اليوم بأزمة إدارية و مالية و اقتصادية خانقة . نأمل من الحكومة أن تجد سريعًا الحلول اللازمة والعادلة لها . إذا فقدنا الجامعة وفقدنا الأطباء وفقدنا المصارف ماذا يبقى في لبنان الذي كان يعرف بجامعة العرب ومصرف العرب ومستشفى الشرق.
نقابة الاطباء أيضًا أكملت مسيرة الإصلاح والبناء في اجتماعات مكثفة مع وزارتي التربية والصحة وكليات الطب وقدمت مشاريع قوانين اهمها
– الهيئة اللبنانية العليا للتخصص الموجود حاليا في لجان المجلس النيابي
– قانون اذن مزاولة مهنة الطب الذي صدر ونعمل مع معالي الصديق الرئيس عباس حلبي على مراسيم تطبيقه. وهذا القانون يحد العدد ، يحافظ على المستوى ويوحّد المفاهيم بين الجامعات.
– وضعنا شروطًا أساسية لفتح كليات طب جديدة .اصبح عندنا ٨ كليات.
-تحديث قانون الآداب الطبية
وإلزامية التثقيف الطبي المستمر والموافقة المستنيرة ، ووهب وزرع الأعضاء وغيرها
أُنسنا، أُنسك يا عميد ، هو إيماننا بلبنان الرسالة ليصح فينا ما قاله لويس أبو شرف في عروس البقاع زحلة
لبنانُ يا كلَ ما في الصدر من أملٍ
رعيًا لأرضك اشتاتًا نناجيها
لأنتَ – لو لم تكن – فرضٌ على زمنٍ
رسالةُ الفكر هديًا، مَن يؤديها
إلا بنوك وقد طافوا العصورَ مع
النجوم وامتشقوا أنقى لآليها
نناضل ونتألم عندما نرى المؤسسات التربوية والصحية والمالية تتهاوى، لكن واجب النخبة المتميّزة في هذا البلد هو أن نحيي الأمل وأن نَبقى الشعلة التي لم ولن تنطفئ.
مسيرة ورهان يعبّر بوضوح واخلاص عن طموحات وكفاءات اللبنانيين وعن صعوبة العمل في الشأن العام اللبناني ، وأمنياتي أن يزداد عدد الملتزمين بالعمل المؤسساتي العلمي والوطني والأخلاقي ، وأن يعي المجتمع دوره أكثر فأكثر في الحفاظ على هذه المؤسسات وبخاصة على الجامعة اللبنانية بعيدًا من السياسة ليبقى لبنان بلد العلم والانسان جامعة الشرق.
أبا طارق وكرستين، هنيئا للبنان بك وهنيئا لنا بصداقتك. ولك منا ولوردتك دلال كل الشكر والامتنان على مسيرتك والرهان وخالص التمنيات بالعافية والأمان
“فأنت كالمجد في صدر الزمان
اذا ولّى فطيبُ الذكر يُحييه
أو هيكلٌ كلما شاب الغبارُ على
جناحه فجناحُ الدهر يَذريه.”
البروفسور مسرة :
وتحدث بعد ذلك رئيس كرسي اليونسكو في جامعة القديس يوسف البروفسور أنطوان مسرة فقال :
خطة النهوض التربوي ،اهم انجاز ثقافي وتربوي لبنانيًا وعربيًا منذ عهد النهضة.
يمكن ان أتكلم عن البروفسور منير أبو عسلي الى يوم غد وبعده! لكني سأوجز لكم الخبرة الريادية في لبنان وكل المنطقة العربية في خطة النهوض التربوي.
1. انا من صغار المساعدين في خطة النهوض التربوي في لجنتي “التربية المدنية” “والتاريخ”. يتصل بي أبو عسلي احيانًا في السابعة صباحًا او بعد العاشرة مساء…! المركز التربوي للبحوث والانماء مشع نورًا وحركة منذ الصباح الباكر ولغاية ساعات متقدمة ليلاً. عندما تتوفر هكذا قيادة في إدارة عامة يصبح التغيير ممكنًا.
2. خطة النهوض التربوي واردة في وثيقة الوفاق الوطني-الطائف. نتكلم عن تطبيق الميثاق واستكمال التطبيق ولكننا ننسى هذا البند في وثيقة الطائف. التغيير التربوي ملازم اساسًا لكل عمل مؤسسي. تبيّن كل الخبرات العالمية ان الخطط المؤسساتية حصرًا قد تفشل في التطبيق في مواجهة عوائق ثقافية واجتماعية. يحتاج كل عمل مؤسسي في سبيل فاعليته الى تخصيب ثقافي وتربوي.
3. حسنًا ذكرنا في مقدمة الدستور اللبناني المعدل سنة 1990: “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، و”لبنان عربي الهوية والانتماء”، “ولا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك…”. اين الثقافة! اين التنشئة؟ هل تتحقق هذه الثوابت بدون ثقافة وتنشئة؟ اجد نفسي اليوم مع حاملي شهادات شارحًا، كما مع تلامذة حضانة: ما معنى دولة؟ ما معنى سيادة؟ ما معنى ميثاق؟ ما معنى: “لبنان عربي الهوية، والانتماء…”!
4. بعد وضع خطة النهوض التربوي وبعد اقصاء قيادتها، تم تأليف لجان لوضع ما يُسمى دراسات وما يسمى أبحاث حول مضمون الخطة. قبضت لجان تعويضات لوضع دراسات علماوية ونقدية ولكنها لم تنتج صفحة واحدة تربوية للاستعمال! كان من اهداف الخطة بالذات المتابعة والتصويب.
5. اتى الي بعد اكثر من 12 سنة حفيدي حاملاً الفصل في التربية المدنية: “المصلحة العامة”. هذا الفصل هو من تأليفي! لم اتخيّل ان قارئ الفصل سيكون حفيدي! حملني ذلك على مزيد من ادراك بالعمق لمفهوم المصلحة العامة والمسؤولية! كان بالإمكان ان أقوم بالصياغة بدون تعمق وان اقبض التعويض المتواضع! هل ندرك ما معنى مصلحة عامة وضرورة التفكير ليس آنيًا بل في الزمن الطويل!
قرأت الفصل بذهنية نقدية. وجدته رائعًا! لكن ماذا فعل المعلم؟ طلب من التلامذة تسطير مقاطع للحفظ! هل شرح ما معنى مصلحة عامة في العائلة، في الصف، في العلاقات اليومية والحياة العامة…؟ كلا. لم نصدر كتابًا للحفظ بل دليلاً مرفقًا باقتراحات أنشطة وتحوّل الى مادة للحفظ!
في الدورات التدريبية في التربية المدنية بقيادة البروفسور منير أبو عسلي كان يشارك في الدورات، وانا مولج ببعضها، مئات من التربويين من كل مدارس ومناطق لبنان. كان يحصل التدريب بدون أيديولوجيا ولا شعارات، بل في تواصل وتفاعل وابداع وتبادل خبرات تطبيقية وفي أمور هي، في السوق السياسية، غارقة في الايديولوجيا والشعارات والسجالات ولا علاقة لها لا بالعلم ولا بالثقافة ولا بالتربية.
6. لا مستقبل للبنان كما نحن سائرون! يتمتع اللبناني بصفات معترف بها عالميًا في الثقافة والابداع وما اسميه الذكاء التعددي والدفاع عن الحريات والصمود… لكن لأسباب مرتبطة بعلم النفس التاريخي (ولن اشرح الان ما يعني ذلك) يتوجب معالجة بعض السلوكيات في الحياة العامة في لبنان. استخلص من خبرتي في الحياة العامة في لبنان ان تعاطى الشأن العام بصدق في لبنان هو شكل من اشكال التعذيب، في سياق ذهنية لم تخضع للمعالجة:
ورد في النشيد الوطني: قولنا والعمل. هل نحن في المجتمعات العربية ظاهرة صوتية، حسب قول احد الكتاب العرب!
ذهنية المعليش: لا مساومة في القضايا الجوهرية، ولا تموضع ولا تذاكي، ولا على مسافة واحدة من الجميع، تطبيقًا لاقوال شعبية: معليش، بيناتنا، شوفيها، مشيها، ما تحمل السلم بالعرض، طرّيها…
نتمادى في توصيف الدولة: مدنية، لاطائفية، علمانية… ولا نبحث كيف تكون الدولة اولاً!
7. الحمدلله ان البروفسور منير أبو عسلي نشر مذكراته، ليس للتأليف، ولا للتفاخر. انه كتاب للشهادة. الشهادة واجب مهني واخلاقي واختبار ورسالة وفعل.
خطة النهوض التربوي بقيادة البروفسور منير أبو عسلي ترتقي الى مستوى الشأن العام بإيمان والتزام وتصميم وتعبئة القدرات. انها اهم انجاز لبنانيًا وعربيًا في الثقافة والتربية منذ عهد النهضة!
السيدة السنيورة :
ثم تحدثت رئيسة النادي الثقافي العربي ورئيسة مؤسسة رفيق الحريري السيدة سلوى السنيورة بعاصيري فقالت تحت عنوان : “مـــا بــيـن المواطـــنة والكـيـــد الســـياســــــي” .
يسعدني بداية أن أنوه بدور النشر اللبنانية التي ما زالت تتصدى لشتى صنوف التحديات لتبقى حية على الساحة المعرفية والثقافية، ايمانا منها بأن دور لبنان الثقافي لا ينفصل عن كيانية لبنان وهويته. والتقدير موصول الى دار هاشيت أنطوان التي لا تزال متمسكة بالمعايير التي درجت عليها في تقديم الارقى لقرائها مضمونا واخراجا، ادراكا منها ان الكلمة الرصينة والفكر الحر يبقيان المعبر الامثل لبعث الروح في لبنان الرسالة والدور والمكانة. لذا نراها تضع مسيرة تربوي لبناني في دائرة الضوء في خطوة تتجاوز توثيق سيرة ذاتية لشخصية عامة، وصولاً الى تظهير معالم حقبة زمنية من تاريخ لبنان، تداخلت فيها فرص الازدهار بمعوقات الاحتراب، وارادة البناء بخيار التعطيل، ومنحى الاحتكام الى المبادئ والمعايير بانتهاج التسلط والكيد السياسي.
يستعرض اصدار “مسيرة ورهان” شريط الاحداث التي عاشها وخبرها مواطن لبناني عُرف منذ البدايات بجرأته وطموحه، وهو القائل ولما يزل في الصف الثالث متوسط في مدرسة زحله الرسمية، وبمناسبة عيد الطالب، ” أتيت هذه المدرسة طلبا للعلم طامحا أن أصبح في المستقبل رجلا من اولئك الذين يحملون المجتمع على أكتافهم”.
مواطن تميز بإصراره والعزيمة وهو الذي جهد ليفوز بمباراة الدخول الى كلية التربية متكئا على قناعته بديموقراطية التعليم في لبنان.
مواطن نجح في توظيف تجربته الطالبية والثقافية والسياسية في تعزيز اندفاعه لمناصرة قضايا المصلحة العامة.
مواطن قاده وضوح الرؤية والشغف في الترقي المعرفي الى نيل منحة تعليمية من مؤسسة عامة هي المجلس الوطني للبحوث العلمية، للالتحاق في جامعة ليون – فرنسا، توجها بالحصول في أيار 1975 على دكتوراه في الكيمياء بتقدير مشرف جدا. كل هذا كان ممكنا لمواطن لبناني بفضل المناخ المحفز الذي ساد لبنان في الستينات واوائل السبعينات، أي قبل دخول لبنان أتون الصراع فيه وعليه في العام 1975 والذي خطف معه ألق لبنان ودور القطاع العام المتنامي في توفير فرص الترقي لمختلف شرائح المجتمع.
عاد أبو عسلي الى لبنان ليخوض مسيرة مثقلة بالتحديات، إثر تبدل الاوضاع وازاء سيطرة قوى الامر الواقع. التحق أستاذا في كلية العلوم وتدرج مديرا للفرع ثم عميدا لكلية العلوم الطبية، بعد أن عمل على تأسيسها بفروعها الثلاثة. كان عليه خلال جميع محطات رحلته تلك أن يتعامل بحزم مع شتى صنوف التدخلات السياسية واضعا هدفا أساس امام ناظريه: مجاراة التطور العلمي، فرض جدية الامتحانات، ووضع الانتماءات الحزبية خارج الحرم الجامعي.
أدرك أبو عسلي حجم المخاطر الناجمة عن غياب سلطة الدولة وهيمنة الميليشيات فماذا لو أضيف اليها فقر الموازنة وتدهور سعر الصرف وهجرة الكفاءات العلمية؛ الا انه تمكن، بفضل نفاذ بصيرته، من ارساء اتفاقيات تعاون متنوعة داخل لبنان وخارجه، ومن ربط الجامعة بالمجتمع العلمي الدولي، ومن نسج علاقات تفاهم مع مرجعيات فاعلة، وظفها جميعها في منح كلية العلوم الطبية مكانتها العلمية وفي تحييدها عن النفوذ السياسي وصولا الى تحصين الامتحانات ومباراة الدخول. لقد خدمت صلابته وكفاءته العلمية في صون كلية العلوم الطبية بفروعها الثلاثة لتكون في تاريخ تسليمها للخلف في العام 1994 ذات سمعة مرموقة داخل لبنان وخارجه. وهذه السمعة تحديدا هي التي رشحته لموقع القيادة في المركز التربوي للبحوث والانماء في ظل مناخ سياسي مستجد اتسم حينها باندفاعه صوب البناء واعادة الاعمار على مختلف الاصعدة ومن بينها القطاع التربوي الذي كان قد سقط ضحية الحروب المتحورة والممتدة فتخلف لعقود عن التطور، وعجز عن تهيئة المتعلم للغد ومستلزماته، وقصّر في تعزيز الانتماء والانصهار الوطني والانفتاح الروحي والثقافي، ناهيك عن فشل مؤسساته التربوية في تزويد المتعلم بقيم ومهارات لا تقتصر على خزن المعلومات بل تتعداها الى التحليل والمناقشة والتقييم.
كُلّف أبو عسلي بإطلاق خطة النهوض التربوي التي شاءتها وثيقة الاتفاق الوطني ان تسهم في بناء مجتمع يضطلع بدور حضاري من خلال تنمية شخصية المتعلم كفرد وكعضو مشارك في المجتمع.
استشرف أبو عسلي ضخامة المسؤولية وتشعب ابعادها سيما انها تنطوي على مخاطر العرقلة من قبل معظم الفرقاء كل بحسب ولاءاته ومفهومه للهوية. فارتأى، وهو الذي كسب الرهان في ادارة كلية العلوم الطبية وفي مد جسور التواصل مع كافة المعنيين والمؤثرين، الركون الى الانفتاح على أهل التربية والتعليم بشتى مشاربهم والانتماءات ليكونوا شركاء فاعلين في ترجمة خطة النهوض الى هيكلية جديدة للتعليم ما قبل الجامعي بكافة مساراته ومسالكه، والى مناهج تعكس روحية الخطة وتوجهاتها وتراعي التطور المعرفي ومستجداته، والى تحديث طرائق التعليم، ومعايير التقييم، وتدريب فريق العمل، وتأليف الكتب للمناهج الجديدة كما تحديث قواعد الادارة واعتماد المكننة وسائر ركائز الادارة التربوية. ولئن تجلت الصعوبات عند كل منعطف في ورشة العمل تلك، فان التحدي الاكبر تمثل في التوافق حول مضامين مادتي التربية الوطنية والتاريخ لارتباطهما بمفهوم الهوية والنظرة الى الاحداث والدروس المستقاة.
استطاع المركز التربوي بقيادة أبو عسلي أن يشكل ظاهرة في القدرة على الانجاز، من ضمن حدود الروزنامة الزمنية المتاحة، وسبل التواصل مع الفعاليات المؤثرة، وطبيعة تجاوب سائر المعنيين والمؤهلين لإنجاز العملية التربوية بركائزها المعرفية وابعادها الوطنية، واضعا شرطا لديمومة النجاح، استمرار عملية الاصلاح التربوي في إطار استكمال سلسلتها المترابطة وفي ظل المراجعة المستمرة لها. ولقد عبر مدير عام اليونيسكو في حينه فريدريكو مايور عن وجوب اعتماد ذلك المنحى بتصريح رؤيوي قال فيه ” يجب عدم تغيير نهج الاصلاح في حال اجراء أي تغيير حكومي”. الا ان تحذير مايور الاستباقي لم يؤخذ به. بل تمظهر الرد بكيد سياسي وضع بنتيجته مهندس المشروع الاصلاحي في التصرف في 13 كانون الثاني عام 1999.
خاض أبو عسلي معركة شرسة ضد مختلف أشكال الكيد السياسي استمرت لما يناهز 9 سنوات اقفلت بنتيجتها، قضائيا، جميع الملفات المختلقة. كان يمكن لمنير أبو عسلي ان يصاب، على طريق الجلجلة تلك، بإحباط هدام ولكنه تعالى عنه بخوضه مسيرة البناء المستمر للذات والتي أثمرت على الصعيد الشخصي تقدما في أكثر من محفل ومجال. اما على مستوى الشأن العام، فيحق لنا السؤال لماذا
وحتى متى تبقى الانتماءات الفئوية والتجاذبات السياسية سببا في ان يُضيِّع القطاع التربوي على نفسه انتهاج رؤية تربوية متجدده، وخطة اصلاحية مستدامة، كان يمكن لهما ان يغيرا في عقود سبقت معالم بناء المواطن اللبناني، وربما ما كنا لنصل الى ما نحن عليه اليوم من تردي عام ومنزلقات خطيرة داخل مستنقع الانهيار.
البروفسور عساف :
وتحدث العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية البروفسور ساسين عساف فقال :
الرهان المضيّع قد يستعاد
كلمة العميد ساسين عساف في كتاب البروفسور منير أبو عسلي
“مسيرة ورهان”
نقرأ في هذا الكتاب سيرة شخصية أكاديمية وتربوية قيادية مبدعة، ومسيرة إنجاز لا حرمت منها مؤسسات تربوية.
السيرة تنتقل بنا من محطّة إلى أخرى بعصاميّة عامرة بالتحديات والنجاحات، والمسيرة من إنجاز إلى آخر، والطاقة عليه لم تبلغ حدّها الأقصى.
قضيّة هذا الكتاب، ربطاً بين السيرة والمسيرة، ليست قضية شخص باحث عن شهرة أو مجد بل قضية جيل باحث عن هوية ووطن وعلم ومعرفة وتربية وأخلاق.
إنجازات البروفسور أبو عسلي، لارتباطها بهذه القضيّة، بلغت من تنوّع حقولها ما يدلّ على غزارة فكره واتّساع علمه وعمق رؤياه وجديد آفاقه وصلابة عزمه على بلوغها، على استعصاء ما فيها من صعاب وارتكاسات.
هنا تلتقي الإرادة بالحكمة لترسم أمامه الطريق واضحة صوب الأهداف الوطنية والانسانية فتتقلّص أمام عينيه المناصب الزائلة المشبعة إغراء وإغواء.
قرأت في هذا الكتاب ميزات حميدة وفارقة في الأعمال الأكاديمية والتربوية، ومنها عدم التفريق بين المبدئية والموجب الأخلاقي لتبقى القناعة العلمية مقرونة بالجرأة الأدبية في أوج تألّقها وأمثل تجسّداتها في الجامعة اللبنانية وفي المركز التربوي للبحوث والإنماء ووزارة التربية والتعليم العالي وفي مؤسسات عربية مثيلة.
متابعاً لتاسيس الفرع الثاني لكلية العلوم، وراسماً الخطوات التحضيرية للبدء ببناء المجمّع الجامعي في الفنار، ومطلقاً شعبة العلوم في البقاع التي تحوّلت فرعاً رابعاً للكلية، وعميداً مؤسّساً لكلية العلوم الطبّية، ومسهماً في تأسيس المكتب الإقليمي في بيروت لاتّحاد الجامعات الناطقة كلّياً أو جزئياً بالفرنسية المعروف حالياً بالوكالة الجامعية الفرنكوفونية التي تعدّ داعماً رئيساً للأبحاث العلمية وصلة الوصل بينها والجامعات الفرنكوفونية وعرّاباً للطلاب الذين يرغبون في متابعة تخصصاتهم العالية في الخارج،
من خلال هذه المواقع والمهمات المنجزة وغيرها كثير ممّا لم يكن ممكناً أو منتظراً لدى بعض المعنيين والمتابعين، أثبت البروفسور أبو عسلي، بامتياز، جودة التفكير والتدبير.
أمّا في المركز التربوي فمن الميزات التي قرأتها في هذا الكتاب التشاور والتحاور مع أهل الاختصاص والخبرة والاستنارة بشجاعة المؤمن “بالترببة… نبني” واقتناع الواثق من أنّه مع هؤلاء يستكمل ضرورات الإستجابة لهذا الشعار/التحدّي..
بسنوات قليلة حوّل المركز التربوي، بالرغم من عدم تفاؤل البعض، إلى مجموعة عقول تتفاعل وتنتج، وجعل أصحابها يألفون هذا المكان نقطة لقاء وأحدث النظريات والمقاربات والأفاهيم العلمية والمعرفية والفنية والتكنولوجية الآتية إليهم من مصادر الفكر العالمي والثقافات العالمية ما أقام بين المناهج والتلامذة علاقة حضارية راقية وأليفة ومبنية على حرمة المعرفة وكرامة النفس وصفاء العقل ونقاوة الروح ونزاهة التصرّف… وأصالة الهويّة.
أشدّ ما في هذا الكتاب من ميزات روعة الصّدق مع الذات والنبل في إبرازها على نصاعة جوهرها.. والنبل من منظومة القيم الدافعة إلى التعالي فتعالى البروفسور منير عن كلّ تجريح وإساءة.. فاحتكم إلى القضاء ونال من القضاء العادل والنزيه ما يعتزّ هو به وما يذلّ به هؤلاء المسيؤون..
أمّا الأوسمة التي نالها والشهادات التي قيلت فيه، سيرة ذاتية ومسيرة إنجاز، فهي مكمّل لحكم القضاء وإدانة لهؤلاء.
الصديق البروفسور منير
العمل بالكدّ والمثابرة، كما إلى أهل العزائم، أحبّ الأعمال إليك.. وها أنت اليوم في موقع إستشاري يسمح لك مجدّداً في إثبات ما تمتلك من قدرات للإسهام في سيرورة التطوير لمنهاج التعليم العام، والرهان المضيّع بعد نجاحها قد يستعاد..
الدكتور بشور :
وتحدث الرئيس السابق لدائرة التربية وفي الجامعة الأميركية الدكتور منير بشور فقال :
إن حظي كبير هذا المساء لعدة أسباب، منها أنني المتكلّم قبل الأخير في هذه الندوة لتكريم منير أبو عسلي بمناسبة إطلاق كتابه بعنوانه المثير “مسيرة ورهان”. إن حظي كبير لأن المتحدّثين الكرام قبلي قد وفّروا عليّ الكثير من الكلام عن منير، عن صفاته وأعماله ومنجزاته، ولهذا أنا لن أتحدث عنها. كما أن حظي كبير لسبب آخر هو أن إسمي الأول هو أيضاً منير، على إسم مكرّمنا العزيز منير أبو عسلي، فكلانا منير، بما يفترض أن يكون كلّ منا مصدر نور للآخرين، فنضيء السبيل أمامهم، ونكشف عن مواطن السلامة في مساراتهم، كما عن مكامن الخطر.
وأحسب أن مكرّمنا العزيز الدكتور منير قد جسّد في مسيرته التي شاركنا في استعراضها والحديث عنها في كتابه الراهن، المصاعب التي واجهته، والتحدّيات التي تصدّى لها، وإيمانه وصلابته، وتمسّكه بالرهان الذي نذر حياته له، مع رفيقة عمره السيدة دلال.
كهذا المعنى تبلغ المطابقة بين اللفظ والمعنى كما لها، فيشعّ المنير بالنور أمام السائرين، كما تشع المنارة، وينكشح الضباب، وتزول المصاعب والعقبات أمام بلوغهم أهدافهم.
والحديث عن النور، وما تفعله المنارة، يستجلب إلى الأذهان احتمالاً آخر يمكن التنويه عنه، بما تفعله المرآة بالمقابل لما تفعله المنارة. فالمرآة تعكس ما هو قائم، فيبقى الجميل في المرآة جميلاً، والقبيح قبيحاً، وتبقى الأمور على حالها، أو على ما يمكن أن يكون أسوأ حالاً، إذا شاب الغبار أو الهوام سطح المرآة أو أطرافها، بينما، بالعكس عن ذلك تشعّ المنارة وتضيء أمامنا معالم كانت مجهولة، وتفتح أمامنا آفاقاً جديدة.
والمقارنة هنا بين المنارة والمرآة ليست خارج الموضوع أيها الحضور الكرام، بل هي في صلبه، وتمس ما هو مطلوب منا في التعليم، من المدرسة ومن الجامعة أن تقوم به. هل المطلوب من المدرسة أو الجامعة أن تعكس ما هو قائم من معارف ومهارات وقيم كالمرآة، فتنقل ذلك إلى المتعلمين، وتظهره للعيان، وتحرص على حفظه وتكراره، فترسّخه في الأذهان وللضمائر، أم المطلوب منها أن تميط اللثام عن مآلٍ وعن احتمالات، أو عن آفاق أخرى كالمنارة؟ أو لعله من المناسب والمطلوب شيء من هذا، وشيء من ذاك، فيكون التعليم على المستوى الإبتدائي مثلاً وفي المدرسة الإبتدائية كالمرآة، كالنقش في الحجر، بينما يكون التعليم العالي وفي الجامعة كالمنارة؟ وفي البال يخطر السؤال التالي: ما المصير الذي نصير إليه إذا انقطعت الكهرباء فغاب الضوء عن المرآة، كما انقطعت أوصاله عن المنارة؟
“بالتربية نبني”
هكذا كان الشعار الذي أطلقه “سميي” العزيز المحتفى به وبكتابه الدكتور منير أبو عسلي، كشعار لعمله وجهاده التربوي، كما عرفته منه وعنه، حين أسعدني الحظ وعملت معه، وإلى جانبه، وبإشرافه، في نطاق المركز التربوي للبحوث والإنماء.
“وبالتربية نبنبي”!
هل بإمكان التربية أن تبني، أن تغيّر في ظل نظام سياسي فاسد؟!
تعرفون ولا شك أنه منذ زمن بعيد عندما سعى أفلاطون إلى بناء جمهوريته الفاضلة، بدأ بالسياسة، وجعل العدالة في رأس الصفات المطلوبة لقيام هذه الجمهورية. فأوكل مهمة تحقيق العدالة إلى قلة من الناس وضعهم في رأس الجمهورية وأفاض في نوع التربية المطلوبة التي يجب أن يحصل عليها هؤلاء لقيامهم بواجباتهم، وتحقيق العدالة وسلامة الجمهورية. أحسب أن أفلاطون كان مثل المواطن الطيب الصالح المجتهد في هذا الوطن المعذّب الذي أسمه لبنان، يؤمن بأن شطف الدرج يبدأ من فوق من الدرجات العليا، وإذا لم يحصل ذلك فعندها تذهب الجهود المبذولة لشطف الدرجات الدنيا وتنظيفها. إننا على أبواب إمتحان جديد بعد عشرة أيام من اليوم، لعلنا آنذاك نضع اللبنة الأولى للبناء السياسي الذي يفتح أمامنا الأبواب على المستقبل الجديد.
إذا فعلنا ذلك نكون قد نجحنا، على الأقل، في توفير الموتير الإحتياطي لإنارة المرآة كما نضيء المنارة في حال إنقطاع الكهرباء عن العمل. عندها نحتفل جميعاً بالمسيرة مع منير أبو عسلي. كما نحتفل بكسب الرهان.
الدكتور إسماعيل :
وتحدث تلميذ البروفسور أبو عسلي في كلية العلوم الطبية الدكتور حسن إسماعيل فقال :بالتربية نبني ، كان شعاراً مملّاً اعتدنا المرور عليه حين كنّا نتصفّح ما أُطلق عليه اسم “كتب الدولة”. وماذا يتوقّع من مراهقين نمَوا في بلد الخطابات والشعارات، حيث الأفعال فيه لا تتعدى سرقةً لمشروع أو تلزيماً لمقرّب. كبرتُ والتحقت بالجامعة اللبنانية، أحمل سلفاً في وجداني كراهيةً تجاه كلِّ ما يمتّ إلى الدولة بصلة.
في كلّية العلوم الطبية، عام 2009، قابلنا نموذجاً جديداً من موظفي الدولة. رجل أنيق، مبتسم أغلب الأحيان، يحمل درجات علمية عالية جداً، يُصرّ على مخاطبة الجميع، ويؤدي دوره بشغف. تلك البداية الغريبة تجلّت معالمها في المحاضرة الأولى للبروفيسور منير أبو عسلي. يومها، طلب من الجميع أن يرسلوا إليه صورهم الشمسية. لاحقاً علّل أستاذنا طلبه بأنه يريد أن يحفظ وجوه طلابه. وبالفعل، لم ينقضِ شهران حتّى كان ينادي الجميع بأسمائهم. الصدمة الثانية بالنسبة إلي، كان حين وصلتني عبر بريدي الإلكتروني رسالة منه في الرابعة صباحاً. فتحت الرسالة متفاجئاً، لأجد فيها الفرض الذي أرسلته له منذ أسبوع، مصحِّحاً باللون الأحمر أخطاءً عديدة.
أول سؤال تبادر إلى ذهني في ذلك الصباح كان التالي: لماذا يُصرّ أحد ما على بذل جهد من هذا النوع، إذا كان راتبه المرتفع سيصل إلى حسابه المصرفي آخر الشهر حتى لو قضى نصف أيامه نائماً؟ يمكن سرد عشرات الحوادث المشابهة. ففي إحداها مثلًا، وقف مؤسّس كليات الطب في لبنان بكل تواضع أمام حفنة من الطلاب ليعتذر منهم إثر مزحة فُهمت خطأً وأخذت أبعاداً كان بعيداً كل البعد عنها.
هنا كنّا أمام نموذج المربّي. صفة أصبحت نادرة شيئاً فشيئاً في المؤسسات الأكاديمية. فمكتبه العتيق الذي أصرّ على بقائه رغم رفعة منصبه، شهد مئات اللقاءات مع الطلاب لمناقشة تساؤلاتهم وشكاويهم ومشاكلهم، حتى الشخصية منها. كيف لا، وهو الذي كان يكرر كل يوم عبارة “إنتو أولادي”.
تفاصيلُ صغيرةٌ كشرائه لأقلام اللوح الأبيض من جيبه الخاص كانت فعلاً تراكمياً يقف عنده الشباب اليافعون. فكما يعلم جميعكم، كنّا في سنّ الغضب والرفض والغليان، المطبوع بالسخرية والتحقير لكل شيء. رغم ذلك، كان القدوة التي بحثنا عنها، ورجل الدولة الذي حلمنا به يتقلّد المسؤولية. وجد كثر منّا ضالته في هذا الإنسان الذي كان يعترف كل يوم بأنّه ما زال في طور التعلّم.
ولحسن حظّنا، كان هو في طور التعلّم، أمّا نحن، فكنّا في طور التربية. والفرق بين الأمرين كالفرق بين الصورة التي كانت مرسومة في أذهاننا، وما عايشناه وخبرناه مع هذا المعلّم العظيم.
في زمن الهجرة التي يشهدها بلدنا اليوم، والتي تصحّ تسميتها بالهروب الجماعي، تقف نماذجُ قليلةٌ كالرمز الذي نحتفي به اليوم، كبارقةِ أملٍ مقابل جحافل الحيارى المحتشدين أمام شبابيك جوازات السفر، متحدّيةً كل أشكالِ اليأسِ التي تدفع الآلافَ يوميّاً نحو مستقبلٍ خلف البحار، بعيداً عن أهلٍ يبكونهم بحرقة وترابِ وطنٍ ينزف منتظرًا الرحمة الإلهية.
كل الدروس والعلوم تُنسى مع مرور الزمن، لكن وحدها قصص النهوض والبناء والنضال في وجه المستحيل تبقى راسخةً في الأذهان، لتزهرَ أوطانًا وتلهمَ شعوبًا.
البروفسور أبو عسلي :
ثم تحدث الرئيس السابق للمركز التربوي والعميد المؤسس لكلية العلوم الطبية في الجامعة اللبنانية البروفسور منير أبو عسلي فقال :
إسمحوا لي أن أبدأ بالتوجّه بالشكر إلى وزير التربية والتعليم العالي، الدكتور عبّاس الحلبي، لرعايته هذا الإحتفال ومشاركته في الندوة، كذلك إلى نقيب الأطباء الصديق البروفسور شرف أبوشرف لإستضافته الكريمة لنا في مقرّ النقابة ومشاركته في مراجعة الكتاب. كما أنني أشكر الزميلة والزملاء الأصدقاء الذين شرّفوني بالتقديم لمسيرة ورهان، السيدة سلوى السنيورة، الدكاترة الأساتذة أنطوان مسرّة، ساسين عساف، منير بشور والطبيب حسن إسماعيل. أشكركم جميعا، جزيل الشكر على مراجعاتكم وشهاداتكم التي أعتزّ وأفخر بكل واحدة منها. وشكري ايضا لمدير الندوة، المستشار الإعلامي لوزير التربية، والصحافي النزيه ألأستاذ ألبير شمعون. والشكر موصول لكل من تفضّل ولبّى الدعوة لحضور هذه الندوة.
لقد تردّدت كثيرا وسألت نفسي مرارا هل من الصواب إقامة هذه الندوة ولبناننا العزيز يمرّبأحلك الظروف وأشدّها صعوبة في تاريخه؟
عدت وقرّرت أنه واجب علينا أن نضيء على إنجازات إستطاعت مؤسساتنا الرسمية تحقيقها كلّما ترفعّت النفوس عن المنافع الشخصية ووجدت الإرادة الصلبة وتشابكت الأيادي لخدمة المواطنين والوطن.
لم أكن لأقف أمامكم اليوم، لولم تفتح المدرسة الرسمية أبوابها في زحلة، سنة إنهائي الصف الثالث إبتدائي، ولو لم تتح لي كلية التربية في الجامعة اللبنانية الحصول على الإجازة بفضل منحتها الشهرية، وما كنت لأنال دكتوراه دولة في العلوم من جامعة كلود برنارالفرنسية لولا منحة من المجلس الوطني للبحوث العلمية. لذا عاهدت نفسي، فور عودتي من فرنسا أن أفي الوطن بعضا مما قدّمه لي. وكان من الطبيعي أن أخدم في مجال التربية التي طالما آمنت بقدرتها على التغيير.
فالتحقت بالفرع الثاني لكلية العلوم في الجامعة اللبنانية، كاستاذ للكيمياء، وعيّنت بعد عام واحد مديرا لهذا الفرع، ثمّ عميدا مؤسّسا لكلية العلوم الطبية وبعدئذ، رئيسا للمركز التربوي للبحوث والإنماء، قبل أن أعود من جديد إلى الدرس والتدريس، وأنتقل بعد نيلي شهادة ال MBA، إلى الإستشارات في مجال الإدارة الإستراتيجية للتربية في لبنان والبلاد العربية وفي المنظمات الدولية.
لقد حاولت، خلال أكثر من أربعين عاما أن أعطي كلّ ما لديّ من أجل إنجاز مهمّاتي كاملةً، مهما كلّفني هذا من بذل تضحيات ومواجهة تحدّيات.
فأسهمت خلال الحرب، بفرض سلطة القانون وبناء المؤسّسات يوم كانت هذه تتعرّض للهدم والتخريب، في ظل تقويض شبه كامل لهيكل الدولة.
ففي مرحلة أولى، وبالتضامن مع الأساتذة والموظفين والعقلاء من الطلاب أصبح الفرع الثاني لكلية العلوم، ، بفترة قياسية، مثلا يحتذى بجدّية العمل ومستوى الخريجين.
وفي مرحلة لاحقة، فتحت كلية العلوم الطبية باب التخصّص بالطب وطب الأسنان والصيدلة لطلاب لبنان، وفق نظام دخول صارم، يعتمد الكفاءة وحدها من دون سواها من المعايير. فأصبحت ديموقراطية التعليم واقعا يؤمّن للطلاب غير الميسورين مساواة حقيقية في فرص التعلّم والوصول إلى أعلى المناصب من دون أي شكل من أشكال التمييز.
وبرهن متخرّجو الكلية أنهم من طينة المتفوقين، فثبّتوا مكانتهم أمام الجسم الطبي الوطني والعربي والدولي، وأصبح منهم عمداء، وأساتذة، وباحثون، ونقابيون مميزون، ورؤساء مراكز وأقسام بارعون في أهم المستشفيات والجامعات في لبنان والبلدان الأميريكية والأوروبية.
وبعد الحرب، وفور تسلّمي رئاسة المركز التربوي للبحوث والإنماء، عملت على جمع نخبة من المربّين والمفكّرين، ممنّ كانوا بالأمس القريب متباعدين بحكم إنتمائاتهم الطائفية والحزبية والمناطقية، فعملوا معاً، تحت شعار «وبالتربية نبني…»، وأنتجوا معا مناهج تربوية وطنية، تؤسّس لبناء وطن تسوده العدالة، ودربّوا معا أكثر من عشرين ألف معلم ومعلمة في القطاعين العام والخاص، وأنجزوا معاً الكتب المدرسية للموادّ والصفوف كافة، باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية.
ولكن، ذات نهار، وبعد مئة يوم على البدء بتطبيق المناهج في المدارس كافة، وبعد دقائق من التوافق على مشروع مرسوم منهاج موحّد للتاريخ، أعلن مجلس الوزراء وضعي بالتصرّف !
أيقنت للتوّ أن السياسة أجهضت عملية الإصلاح التربوي، وبالفعل، وبعد سيل من المدح والتصفيق، بدأ التشهير بالإنجازات وشوّهت المناهج ولم تطبّق المبادىء الضامنة لحسن سير العملية التربوية. فجاءت النتائج دون الطموحات في القطاع العام، في حين نجح التغيير في العدد الأكبر من مؤسسات القطاع الخاص. وسقط الرهان على المؤسسات التربوية الرسمية، لا بل ضيّع هذا الرهان على حد قول صديقي العميد عساف.
إذ كيف يمكن لهذا العمل الذي توافق عليه أكثر من أربعمائة تربوي يمثلّون جميع الفئات اللبنانية، والذي كان يعطي للمدرسة دورا جديدا في بناء جيل جديد من التلاميذ، شركاء في بناء معرفتهم ومهاراتهم ومن ثمّ شركاء في بناء الوطن، كيف يمكن لهذا العمل ألاّ يبلغ خواتيمه المنشودة لو حيّدت التربية عن الكيدية السياسية ومصالح السياسيين الضيقة، التي تحصد الصالح والطالح عند كل تغيير للعهود والحكومات ؟
هذه المسيرة وهذا الرهان هما ما أردت نقله إليكم في هذا الكتاب، بكل صدق وأمانة، متوقّفا أيضا عند أهمّ المحطات وأبرز النوادر التي طبعت حياتي الخاصة، وصبغ البعض منها السلوك والرأي والموقف.
فاسمحوا لي هنا أن أرسل تحية شكر وتقدير إلى كل من عمل معي في المؤسسات التي كان لي شرف إدارتها، الزميلات والزملاء الأساتذة والتربويين، والأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة والإداريين، والخبراء من الداخل والخارج. فبفضل تضامن الجميع وعملهم بجهد وعزم وصلابة، إستطعنا تحقيق الكثير خدمة للمواطن والوطن.
وتحيتي وتقديري إلى كل من المسؤولين السياسيين ورؤساء الجامعة اللبنانية الذين ثمنّوا إنتمائي الخالص للوطن ومؤسساته فدعموا مسيرتي. وشكري أيضا إلى كل أصدقائي وأفراد عائلتي. وتحيتي إلى كل من أسهم بطريقة أو بأخرى ب”مسيرة ورهان”، وأخص بالذكر دار “هاشيت أنطوان” والمبدعين في فريق “غرافيك ترافيك” الذين قدّموا تصميم الكتاب والدعوة لهذا اللقاء، فاضافوا لمسة جمالية على تفاصيلهما، والشكر كذلك إلى الأستاذة غلواء السبعلي التي قدّمت هي أيضا الترجمة الفورية لهذه الندوة.
معالي الدكتور عباس الحلبي،
لقد أردتم أن يقوم المركز التربوي للبحوث والإنماء من جديد بعملية تطوير النظام التربوي، ويشرّفني أن أراهن مرّة أخرى، برعايتكم ، على دور التربية والمؤسسة الرسمية في إعادة بناء الوطن. فعساه خيرا هذه المرة.
لقد خصّصت معظم وقتي للعمل، ربّما في كثيرمن الأحيان ، على حساب عائلتي. لكن لحسن حظي، استطاعت زوجتي دلال، بالرغم من المتاعب الصحّية التي رافقتها ولا تزال، وبالرغم من التزاماتها بالتدريس في كليّة الآداب، ومسؤولياتها بتأسيس برنامج تعليم اللغة الفرنسية لطلاب الجامعة اللبنانية، والإدارة والتأسيس في مركز اللغات والترجمة، إستطاعت أن تبقى العين الساهرة على تربية ولدينا على المبادئ والقيم النبيلة، وأن ترعى مسيرتهما المدرسية في مختلف المراحل والتفاصيل. وأحمد الله أنّ ولدينا طارق وكريستين هما اليوم، موضع فخرنا واعتزازنا على الصعيدين المهني والإنساني.
وقد اكتملت فرحتنا بإضافة العزيزين شيه، زوجة طارق، وماركو، زوج كريستين، إلى عائلتنا الصغيرة، وبولادة أحفادنا الأحبّاء الأربعة: توماس وكيارا ولورنزو وليوناردو.
إنّ فرحي عظيم أن أكمل الدرب جنباً إلى جنب مع زوجتي دلال، رفيقة دربي ونضالي، وملهمة أفكاري، نتابع حياتنا معاً ونحن مطمئنّان بأنّنا قمنا بواجباتنا تجاه الوطن والتربية، فأسهمنا، كلّ في ميدانه، في إعداد أجيال من المواطنين يحقّ للبنان أن يفخر بهم .
ولا عجب أن يكون الكثيرون منهم قد نزلوا إلى ساحات انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، هاتفين «ثورة…ثورة»!، مطالبين ببناء الدولة المدنية العادلة، دولة القانون والمؤسّسات التي طالما راهنّا عليها!
بعد ذلك وقع البروفسور أبو عسلي نسخا من كتابه لجميع الحاضرين ، وأقيم حفل كوكتيل في المناسبة .