كتبت صحيفة ” الأخبار ” تقول : من يرد أن يكون منصفاً في قراءة نتائج الانتخابات، عليه أن يقرأ النتائج كما انتهت إليها آخر عمليات الفرز، كما عليه أيضاً أن يقرأ البرامج والأهداف التي وضعتها كل القوى التي انخرطت في منافسة حادّة استخدمت فيها كل الأسلحة غير المشروعة.
منذ 2018، انطلقت أوسع حملة في لبنان والمنطقة والعالم ضد التحالف الذي أوصل الرئيس ميشال عون الى القصر الجمهوري. لم يكن الإقليم والعالم محتاجاً الى المواربة ليقول إن هدفه هو رأس حزب الله أولاً، وإن الوصول الى رأس الحزب يتطلّب عمليات متنوعة، أبرزها ضرب حليفه الأبرز أي التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل.
لا يمكن تجاهل كل الإدارات السيئة للفريق الحليف لحزب الله على صعيد السلطة. ولكن أيّ توزيع عادل للمسؤوليات عن الانهيار المستمر، لا يمكن أن يعفي كل خصوم الحزب والتيار، من القوى المحلية الى الإقليمية الى الدولية، عن الدور المركزي في هذا الانهيار. وهذا يحيل الى السؤال: كيف يمكن أن تهزم خصماً، وأن تحمّله مسؤولية كل المشاكل التي يواجهها لبنان؟
اليوم، كما في الأمس، كان واضحاً أن القيادة الأميركية – السعودية لهذه المعركة لم توفّر وسيلة إلا استخدمتها في هذه الحرب. من العزل السياسي، الى الحصار الاقتصادي والعقوبات، الى الحملات السياسية الداخلية، الى برنامج عمل مكثف نجح بقوة في استقطاب قوى وجماعات وأفراد ومؤسسات إعلامية ونخب وجعلهم ينخرطون في المعركة ضد الحزب والتيار، بحجة أن هذا التحالف هو الذي يمنع قيامة لبنان. وعندما اندلعت انتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019، سارع هذا الفريق، بقواه المحلية الأصلية (كل قوى 14 آذار) الى القوى الإقليمية والدولية، الى التجمع الشعبي الذي أنتجته منظمات العمل غير الحكومية، لينخرط في تحالف غير متماسك، بل غير موحّد تنظيمياً ولا حتى شعاراتياً، لكنه تحالف وقف عند سطر واحد ظل عنوان تحرّكه حتى السابعة من مساء الأحد في 15 أيار وهو: يجب إسقاط حزب الله والتيار الوطني الحر، ونزع الشرعية الأخلاقية والشعبية عن كل فرد أو مجموعة أو حزب يتعامل معهما.
على هذه القاعدة، جرى إطلاق العملية الانتخابية من قبل خصوم الحزب والتيار. ومنذ أقل من عامين، لم تتوقف الماكينة الأميركية – السعودية – الإماراتية، بالتعاون مع قوى 14 آذار والمستجدّين من قوى 17 تشرين، لصياغة تحالف سياسي واسع بهدف تأمين تعاون وثيق يمكّن الفريق نفسه من إطاحة أو سحق الحزب والتيار. بل إن هذا الفريق مهّد بنجاح لعمله، من خلال الانتخابات القطاعية والنقابية التي جعلت ممثّليه يتقدمون الصفوف، لكنّ ثمة خللاً جوهرياً ظلّ يرافق هذه الورشة حتى وصلنا الى أمس الأحد.
خلال كل الفترة الماضية، لم يكن بإمكان هذا الفريق إقناع اللبنانيين عموماً بأن عنوان المعركة حقيقي. كانت الضربة الأولى في كون المجموعات الشبابية التي احتجّت على السلطة لم تقبل التعاون الكامل مع الفريق اللبناني الحليف لأميركا والسعودية. وتمثّل الأمر في انقسامٍ حال دون تركيب تحالف شامل في لبنان كله. وجاءت الضربة الثانية في كون الانهيار الاقتصادي والمالي الذي كان الغربيون يأملون أنه سيصيب حصراً، أو بصورة مكثفة، أنصار حزب الله والتيار، نال من كل اللبنانيين، وبدا أن الحزب والتيار أكثر قدرة من الآخرين على تنظيم أكبر عملية «دعم اجتماعي» مكّنتهما من مواجهة ضغط الازمة الاقتصادية والاجتماعية. وعلى كشف الآخرين الذين اضطرّوا للمرة الأولى في تاريخ عملهم السياسي الى أن يمدّوا أيديهم الى جيوبهم المليئة بالمال المسروق من الناس هنا، أو المأخوذ من الخارج لضرب المقاومة، ومع ذلك، فإن النتيجة التي رصدها الناس بعد عامين ونصف عام من الأزمة، لم تكن في مصلحة الفريق المعادي للحزب والتيار.
على الصعيد القطاعي والمناطقي، كانت الضربة الأكبر في الانهيار الذي أصاب القاعدة الشعبية عند السنّة بوصفهم القوة الصاعدة منذ عام 2005. وجاء خروج الرئيس سعد الحريري في اللحظات الأخيرة كإشارة على فشل الخطة التي قامت على فكرة استبدال الحريري، وهو أمر كان له الأثر الكبير على الصعيد العام، لأنه أفقد الطرف المهاجم شرعية إسلامية عامة. حتى الذين تمرّدوا على الحريري لم يقدروا على صياغة شعار أو برنامج قادر على الاستقطاب الفعلي في مواجهة الحزب والتيار. وبدا واضحا ان الحريري عاقب بالدرجة الاولى الذين تمردوا على قراره بالعزوف في غالبية المناطق. ولو ان الذين برزوا في عكار تحديدا يملكون حيثيات مستقلة نسبيا عن الحريري وقاعدته.
وإلى جانب الضمور الذي أصاب الكتلة النافذة للدروز بقيادة وليد جنبلاط، وتراجع التأثير الفعلي للكتلة التي كانت تسيطر على الإدارات المالية والاقتصادية في البلاد، وعدم نجاح خطة تحويل الجيش والقوى الأمنية الى بديل يقود انقلاباً في البلاد، فإن الضربة الأكبر كانت في أن الشارع المسيحي انقسم بطريقة أظهرت أن كل الحرب التي شنّت على التيار الوطني الحر ورئيسه، لم تنجح في لفظه، وكل الخسائر التي أصابته لم تتحوّل الى عنصر قوة عند خصومه بما يهدد موقعه التمثيلي كقوة مركزية وأساسية عند المسيحيين.
على أن المشهد ما كان ليكتمل لولا الهزيمة الكبرى للمشروع السعودي – الأميركي في خلق واقع سياسي مختلف عند الشيعة. كان يكفي مراقبة المزاج العام عند الشيعة خلال الأشهر القليلة الماضية لمعرفة أن كلّ الاحتجاج الكامن أو الظاهر على إدارة حركة أمل خلال ثلاثة عقود، أو تحميل حزب الله مسؤولية الصمت عن الفساد في الدولة وبين حلفائه، فإن الصورة العامة كانت شديدة الوضوح في أن المقاومة هي العنوان الرئيسي للمعركة. وعند هذا الحدّ، شهدت الساحة الشيعية التفافاً غير مسبوق حول المقاومة لدرجة أن قائدها السيد حسن نصر الله لم يحتج الى جهد كبير في تعبئة الجمهور اللصيق فقط، بل في دفع المتردّدين أو المحتجّين على التحالفات، الى التصويت بقوة لمصلحة لوائح المقاومة وحلفائها في كل الدوائر.
عملياً، يجب أن يقرّ اللبنانيون، بواقعية شديدة، بأن المعركة التي انطلقت بقوة قبل أربع سنوات، وتعاظمت بشدة استثنائية خلال العامين الماضيين، فشلت في تحقيق معظم أهدافها:
أولاً: لم تُكسَر القاعدة الشعبية الخاصة بالمقاومة عند الشيعة أو غيرهم.
ثانياً: لم يُكسَر التيار الوطني الحرّ، والخسارة التي اصابته في النتائج التي برزت حتى ساعات الفجر، لا تعني تحويله الى قوة هامشية كما يرغب خصومه. وهو لا يزال يمثل قوة مسيحية مركزية في سياق إعادة إنتاج سلطة شراكة واسعة.
أما النموّ الذي حققته القوات اللبنانية فلن يعدّل في صورة الموقف لناحية أن الانقسام السياسي عند المسيحيين سيشتد اكثر. وهو امر سيترجم على اكثر من صعيد، خصوصا حيال طريقة تصرف القوات مع الاستحقاقات المقبلة حكوميا ورئاسيا.
على ان النتيجة الابرز لحدث الامس، تمثلت في بروز حالة من الشرذمة السياسية في الشارع المسيحي بصورة تعيد الى الذاكرة صورة الوضع الذي كان قائما نهاية ثمانينات القرن الماضي. وهو انقسام يتزامن مع مشكلة كبيرة في موقف الكنيسة من جهة، وفي ظل غياب التفاهم على اليات لادارة الحوار حول موقع المسيحيين في صيغة الحكم المقبلة، من طريقة العمل في المجلس النيابي الى تشكيل الحكومة وصولا الى الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل.
ثالثاً: واجه وليد جنبلاط التحدّي الأكبر في تاريخه السياسي الحديث. فهو لم يفشل فقط في تركيب لائحة تحقق تغييراً يلامس احتجاجات قواعده الحزبية، بل إن التعبئة التي شنّها ضد حزب الله وسلاح المقاومة لم تجعل الأصوات الاعتراضية تذهب لمرشحيه، وسجّلت نسب جدّية من الأصوات لمصلحة مرشحين هم يرفعون شعار الخصومة مع كل القوى السياسية، لكن حصادهم الأساسي نال من قاعدة جنبلاط قبل غيره.
رابعاً: كانت المعركة الأكبر في الوسط السنّي. وجاء قرار إعدام سعد الحريري لعدم نجاحه في تحقيق أهداف المعركة الأميركية – السعودية، لينعكس غضباً تمثّل في تراجع واضح في التصويت. وكل تراجع في نسب أو عدد الأصوات إنما اقتصر حيث يوجد ناخب سني. هذا ما برز في صيدا وبيروت والعرقوب والإقليم والبقاع وطرابلس والبقاع وعكار. والتدقيق التفصيلي الذي سيكون في متناول الناس، خلال الأيام القليلة، سيكشف أن الحريري كان بمقدوره ترؤّس كتلة نيابية جدّية لو خاص المعركة من دون الضغوط الأميركية – السعودية. لكنّ اللافت الذي يجب أن يأخذه الجميع في الحسبان، أن كتلة لا بأس بها من الأصوات ذهبت الى المرشحين الذين يخاصمون حزب الله حكماً، ولكنهم من الفريق الذي لم ترُقْه آلية العمل من قبل فريق الحريري طوال العقود الثلاثة الماضية.
خامساً: بدت القوى العلمانية الكبيرة في حالة ضعف ووهن بخلاف ما كانت عليه في انتخابات سابقة. فهي لم تقدر على فرض تحالفات واضحة خلال تشكيل اللوائح. وما حصل مرشحوها من أصوات (وفق آخر النتائج) تدل على أنها مصابة بإنهاك كبير، وبات عليها إعادة النظر في كل ما تقوم به وكل ما تفكر به وكل ما تعتمده من آليات، وخصوصاً أن التيار المدني أو العلماني الذي برز بعد 17 تشرين، وتقدّمته «حركة مواطنون ومواطنات في دولة»، دلّ على إمكانية خلق واقع جديد في الأوساط العلمانية، وإن كانت تجربة الحركة تحتاج الى مراجعة دقيقة من الحركة نفسها لحسم الكثير من القضايا التي إما تفسح في المجال أمامها لحجز مقعد سياسي حقيقي أو الذوبان في لعبة الاستعراض باسم المعارضة العامة.
سادساً: مرة جديدة، يقول لنا اللبنانيون إن دور العائلات التاريخية في حياتنا السياسية لا يمكن تجاوزه أو كسره بسهولة. لقد أظهرت النتائج الأولية أن العائلات التي تحدّر منها نواب على مدى عقود، لا تزال حاضرة بقوة، سواء كانت تعرّف عن نفسها باسم أحزاب أو قوى أو حتى جمعيات أو أفراد. وهو انتشار امتدّ على كامل لبنان، من عكار وطرابلس والمنية وبشري والبترون الى جبيل وكسروان والمتن والشوف وعاليه، مروراً بصيدا وجزين وبعض مناطق البقاع وبيروت. وهذا النوع من التمثيل، سواء حقق فوزاً كاملاً أو فوزاً ناقصاً أو حتى خسارة، إنما جرى بطريقة تعكس قدرة هذا النوع من العمل السياسي على الاستمرار في ظلّ هذا النظام الانتخابي القائم على منطق الزبائنية التي لا تخجل من استخدام كل العناوين الطائفية أو المناطقية أو الإقطاعية أو المذهبية من أجل الوصول الى تحقيق أهدافها.
سابعاً: من اليوم وصاعداً، ستضطرّ قوى الإقليم والعالم الى التصرّف وفق نتائج الانتخابات التي ستظهر على صورتها النهائية خلال ساعات قليلة. وكل مشروع للحوار أو للضغط على لبنان، لا يمكن تبريره بفكرة الشرعية المغتصبة، حتى ولو استمر – وهم سيفعلون – بالحديث عن الترهيب الذي مورس بسبب سلاح المقاومة. لكن الفكرة التي سيكتشفها اللبنانيون سريعاً أن الدول المعادية للمقاومة، من السعودية والإمارات وأميركا وفرنسا وألمانيا وغيرها، إنما بدأت، قبل أسابيع طويلة، البحث في سبل التوصل الى صيغة لحل سياسي يمنع السقوط الكامل للبلاد. وسيكتشف اللبنانيون سريعاً أن البحث في طريقة تشكيل الحكومة الجديدة، ووضع برنامج عملها والتحضيرات للانتخابات الرئاسية في الخريف، ستكون محكومة بالنتائج الحقيقة للانتخابات. وهي النتائج التي تقول لنا أمراً واحداً: مرة جديدة، سقط المشروع الخارجي لضرب المقاومة في لبنان.
لكنّ كل ذلك لا يعني البقاء في الدائرة نفسها وفي الملعب نفسه أو العمل بالأدوات والأفكار والبرامج نفسها، وحتى الأشخاص. وسيكون حزب الله أولاً، والتيار الوطني الحر ثانياً، وكل الفريق الحليف لهما أمام تحدّيات كبيرة، تتطلّب مراجعة ومكاشفة بعيداً عن ضغط الانتخابات. والنظرة الى أيّ حل وطني للأزمة اللبنانية يقتضي أولاً وقبل كل شيء، الإقرار بالأخطاء التي ارتكبت حتى خلال مواجهة أكبر حرب شنّت على المقاومة والتيار من قبل قوى إقليمية ودولية وأدوات محلية قذرة. وإذا كان الخارج المعادي يريد المحافظة على التوازنات الطائفية كقاعدة للحكم، فإن أول تحدٍّ مطروح أمام ثنائي حزب الله – التيار الوطني هو الخروج ببرنامج، يجعل من تفاهم مار مخايل أساساً لتفاهم يتجاوز الحسابات التقليدية، ويأخذ في الحسبان أن المواجهة في المرحلة المقبلة تتطلّب البحث عن شركاء وحلفاء جدد، من دون المرور حكماً بمعمودية التخلّي عن تحالفات موجودة… لكن ما كان صالحاً قبل 15 أيار لم يعد صالحا ابتداءً من اليوم