أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة ، في مقر المجلس، والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “في البداية، نحن على موعد من حلول شهر رمضان المبارك، أودّ أن ابارك للمسلمين خصوصا وللبنانيين عموما بهذه المناسبة العظيمة، آملاً أن نستطيع استغلال هذه الفرصة التي منحنا الله سبحانه وتعالى إياها، وأن يوفّقنا للاستفادة منها روحياً وأخلاقياً وثقافياً وتربويا ونفسياً وصحياً واجتماعياً، التي تشكّل جميعها مساحة لعطاءات هذا الشهر الكريم، لذلك فإن شهر رمضان هو شهر نزول القرآن الكريم أعظم الكتب السماوية والمعجزة الإلهية التي تحدى الله تعالى بها المكذّبين بل الثقلين من الجن والإنس (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) بل تحداهم أن يأتوا بسورة مثله (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)”.
أضاف: “أيها الاخوة والاخوات، فهو شهر الهدى وكذلك هو شهر تتجلّى فيه الرحمة الالهية والبركة و هو شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار والفوز بالجنة، وشهر جُعلت فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر التي خُصّت بنزول القرآن، كما جعل الله تعالى من مميزاتها أنها خيرٌ من ألف شهر أي ما يعادل أكثر من العمر المتوسط للإنسان وهي ليلة واحدة، أي أن قيامها بالطاعة والعبادة والاستغفار والتوبة والدعاء وتلاوة القرآن والعمل الصالح يعادل قيام ألف شهر بليله ونهاره بالطاعة والعبادة من غيرها.
وقد ورد في الدعاء في شهر رمضان: (اللَّهُمَّ هذا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أَنْزَلْتَ فِيْهِ القُرْآنَ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرْقانِ، وَهذا شَهْرُ الصِّيامِ وَهذا شَهْرُ القِيامِ وَهذا شَهْرُ الإنابَةِ وَهذا شَهْرُ التَوبةِ وَهذا شَهْرُ المَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَهذا شَهْرُ العِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالفَوْزِ بِالجَنَّةِ وَهذا شَهْرٌ فِيْهِ لَيْلَةُ القَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر). “
وتابع: “لقد كانت الدعوة الإلهية إلى الاهتمام بشهر رمضان وبيان ما فيه من المميزات والفوائد التي عددناها بعضها ليس من باب التشجيع فقط، وإنما لبيان المصالح الواقعية للإنسانية والبشرية أفراداً وجماعات، فشهر رمضان توجّه فيه الامر بالصيام على الناس في زمن واحد كصلاة الجمعة وليس على فرد واحد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كما هو الحال بتكليف الحج إلا ان الامر فيه اقتصر وجوبه على المتمكّن مادياً ولمرة واحدة في العمر وان الاتيان به بعد ذلك مستحباً، أما فريضة الصوم فهي واجبة في كل سنة في شهر رمضان وعلى مدى العمر، وإن كان الصوم مستحباً في أي يوم من أيام السنة إلا يومين منها وهما العيدان الفطر والاضحى حيث يحرم صيامهما.
كما أن هذه الفريضة لم تختص بالإسلام وإنما كانت مفروضة في الديانات السابقة كما صرّحت الآية المباركة إلى جانب فرائض اخرى يشترك فيها معها كالصلاة والزكاة، قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)”.
وقال: “والذي اريد التنبيه اليه ان الله سبحانه وتعالى لم يفرض هذه العبادات ومن جملتها الصيام الا ليعالج مسألة أساسية لدى الإنسان، وهي أولا تقوية جانب الارتباط بالله سبحانه وتعالى حتى يكون دائماً حاضراً لديه أنه مسؤول أولاً، ومسؤول ثانياً أمامه، وثالثاً إعانة له على القيام بهذه المسؤولية، لأن النفس تميل دائما إلى التخفف من المسؤوليات كما أن الغرائز والشهوات وحب الدنيا ووساوس الشيطان شديدة الوطأة والاغراء مما يجعل النفس شديدة الانجذاب إليها، ولذلك كان لا بدّ من اتخاذ الإجراءات التي تجعلها محصّنة ولديها المناعة الكاملة أن تكون طيّعة وسهلة الاستجابة للشهوات والغرائز والفساد، وبمقدار ما تكون جاذبية الشهوات والغرائز قوية ومستحكمة يجب أن تكون الجرعة المضادة قويةَ بل اكثر، وهذه هي وظيفة العبادات ومنها الصيام الذي يلعب دوراً مهما في هذا الجانب، ومن هنا جاء في الحديث القدسي عن رسول الله (ص): (الصوم لي وأنا أجزي به).
حيث اعتبر سبحانه الصوم له، ولم يرد مثلاً لهذا في بقية العبادات على أهميتها كالصلاة التي ورد فيها انها عمود الدين، وعلى كل حال فإنّ فريضة الصيام كما غيرها من العبادات لم تكن مجرد طقوس دينية، وإنما تؤدي هذه الوظائف الهامة في حياة المؤمنين لتأهيلهم للقيام بالمسؤولية التي كانت وراء إيجادهم وهي تكريمهم، فإن الله تعالى تفضّل على الإنسان بهذا التكريم بما حمله من المسؤولية وجعله خليفة له ليعمّر الأرض ولا يفسدها بعد إصلاحها باتباع الشهوات التي تحيد به عن الحق والعدل إلى تجاوز الحدود والظلم، قال تعالى(وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).”
واردف: “أضف إلى ذلك أن الله سبحانه وتعالى إلى جانب الصوم ترويضاً للنفس وإخضاعاً لها لتكون طيعة للإنسان، أراد للمؤمنين أن يجعلوا من شهر رمضان مناسبة لزيادة المعرفة وتعميقها إلى جانب التربية الروحية بتلاوة القرآن الكريم وتدبّر آياته المباركة والتدرّب على التفكّر، فقد ورد عن الامام الصادق (ع): (تفكر ساعة خير من عبادة سنة) والله تعالى يقول: (وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ) (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
وكذلك الدعاء فإلى جانب ما فيه من التذلل لله تعالى وهو يؤدي في هذا الجانب أحد وظائف الصيام وهو معرفة الإنسان لضعفه وحاجته الدائمة لله تعالى وتحرّره من سلطة الشهوات والغرائز ليكون عبداً لله وحده إلى جانب الاستعانة به والانقطاع اليه في حوائجه وبلوغ غايته في التكامل الإنساني، أيضا الاستفادة من أئمة أهل البيت (ع) ومعارفهم في التعرف على المفاهيم الصحيحة للدين والمعارف الإلهية استجابة لله تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
أيها الاخوة والاخوات، ان الادعية لأهل البيت (ع) ليست مجرد أدبيات خالية من الأهداف، وإنما تحتوي الى جانب الاسلوب المبدع لاهل البيت (ع) في كيفية التخاطب مع الله سبحانه على المعارف الاسلامية الصحيحة من التوحيد وغيره.”
وأكد “ان شهر رمضان المبارك عبارةٌ عن برنامج يتكامل الإنسان فيه تربوياً وروحياً وخُلقياً وإنسانياً ، فهو شهر صناعة للانسان المؤمن بل للجماعة والأمة المؤمنة إن اخذوا بمضامينها، وإني أنصح إخواني بالعودة إلى رسول الله (ص) في خطبته الشريفة التي استقبل بها شهر رمضان المبارك ومحاولة تطبيقها، ومما جاء فيها: عن أميرِ المؤمنين عليه السَّلامُ قال: إنّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله خطبنا ذاتَ يومٍ فقال:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ. وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ
.
ومما جاء فيها أيضاً: وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ أَسْمَاعَكُمْ. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ. أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ، وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ).”.
ودعا الخطيب الى “الرجوع الى هذه الخطبة الجامعة لكل ما تحدثنا عنه وزيادة، ونحن أحوج اليها في هذه الأيام الصعبة لنتغلب على الصعوبات التي تعترضنا وخصوصا الاخلاقية والروحية والمعيشية ومعاونة أهل الحاجة وتمتين علاقاتنا الاجتماعية أسراً ومجتمعاً في مواجهة التحلل من القيم وافساد الاجيال وكل التحديات التي تواجهنا، ونتطلع أن تسود الحكمة لدى القوى السياسية في إخراج البلد من أزماته في أقرب وقت وإنهاء هذا الوضع الذي أنهك اللبنانيين بالاستجابة إلى دعوة الحوار لتتحمل الدولة مسؤوليتها تجاه شعبها وتوفّر مقومات العيش الكريم لأبنائها، وعدم انتظار الحلول من الخارج مع أن الانفراج في العلاقات السعودية الإيرانية يخفّف من ضغوط العوامل الخارجية التي تعقّد المشهد الداخلي وتُسهّل الحلول للخروج من الازمة كحل سريع، ولكن علينا الاعتراف بأن الصيغة الطائفية هي السبب في تكرار الازمات التي هيأت الارضية بالتحريض الطائفي لشد العصب وتهييج الشوارع الطائفية. “
وقال: “لذلك يجب الخروج منها إلى بناء دولة المواطنة وعدم الهروب منها إلى صيغ الكونفدرالية والفيدرالية أو إلى التقسيم، الذي يعني اما الصيغة الطائفية أو الحروب الاهلية، ولو أقيمت دولة حقيقية على أساس المواطنة لما استطاع المتمسكون بالصيغة الطائفية تكرار هذه التجارب التي تعبث بالوطن ومصيره وتحميل المقاومة أسباب فشلهم التي تكاد تكون الوجه الايجابي الوحيد في الحفاظ على الكيان وحماية سيادته في مواجهة العدوانية الاسرائيلية ووحدته من المشاريع الطائفية التقسيمية”.