تحقيق محمد أبو إسبر
تشاركت ثلاثة أعمدة من ركائز حفظ التراث والثقافة المتجذرة في لغة الضاد والفن البعلبكي الأصيل، عنيت بها “مجلس بعلبك الثقافي” الذي يضم كوكبة من الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين في شتى المجالات، و”بيت الثقافة البعلبكي” الحريص على رقي وغنى ورونق العطاء، وفرقة “هياكل بعلبك” بقيادة الفنان المتألق عمر حمّادة المتجذر في الفولكلور، والمبدع في خطواته ولوحاته التي تنم مشهدياتها عن ألمعية نهلت من معين الأجداد، ورغم أنها في بعض ملامحها وتطلعاتها ترنو نحو التجديد، لكنها لم تحد عن الأصول التي غاصت في شرايين الأجساد التي يطربها النغم، وتشدها خطوات الدبكة إلى التجذر في الأرض.
كل هذا التألق والإبداع تآخى مع حضور مميز للاحتفاء ب”فارس الأصالة والتراث” الفنان علي حليحل، المتعدد المواهب، الشاعر والملحن والمغني والفارس، والحالم برفع لواء العز والعزة والكرم والكرامة و النباهة والشهامة. رأسماله ثقافة نهلها من البوادي قبل الحواضر، ومن مصاحبة من بلغوا في العمر عتيّا، الذين قصدهم في عقر مضاربهم، ففتحوا له القلوب العامرة بالمحبة والمفعمة بحب العطاء، فكوّن مخزونا غنيا من كل باب ينفذ منه إلى معين التراث الذي لا ينضب، فحفظ على أيدي كبارهم العتابا والميجانا والمواويل والقصائد وكل بديعها وألوانها وأصنافها، وأضاف إليها من “عندياته” ومن رصيد مخزونه المصفّى الكثير.
ولطالما تعلمنا بأن خطوات الدبكة سباعية: البداوية، الشمالية، العرجا، الكرادية المعروفة بالزينو، البعلبكية، الطيراوية والعسكرية، فإذا بنا نفاجأ بأن ذاك الفنان “الحليحلي” أحصى وأتقن منها ما يقارب السبعين نوعا في بلاد الشام، وتعمق بأدق تفاصيلها وأجاد حفظ كل حكاياها وقصصها ونقلاتها ونغماتها التي تحرك الأجساد طربا والخطوات ذات اليمين واليسار وإلى أمام ونحو الخلف لتنتهي بخبطتها المعهودة التي تحاكي أديم الأرض، فتزهر فنا ولا أروع.
وخلال ترحاله استهوته الخيل، لا سيما العربية الأصيلة منها، فأبحر في خضم نسلها وأصلها وفصلها ومزاياها، فأضحى موسوعة معرفية في عالم الخيل والخيالة، وفارسا من الطراز الأول تنحني له هامات جيادها، وتحن إلى ملمسه وتستأنس بمصاحبته، وتطلق العنان لحوافرها التي تسابق الريح.
أطل أيقونة التراث اللبناني، لا بل العربي دون منازع، الفنان علي حليحل على جمهور بادله الحب بالحب، من على أدراج تصل ما بين عطر بخور القديسة بربارة في ساحة مطرانية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك، ومدخل السوق القديم حيث فتح “مجلس بعلبك الثقافي” قلب داره للمحتفى به ولضيوفه من عشاق الفن الأصيل الذين تحلقوا في الباحة الخارجية، مصوبا بزفة فرقة “هياكل بعلبك” التي شاركها عددا من لوحاتها، شابكا يده بيد قائدها عمر الذي ترك له أول الصف يعاضده بكتفه الأيمن.
حليحل
وأكد الفنان حليحل أن “التراث البعلبكي هو الأغنى في العالم العربي والأرقى، ففي التراث الشعر البعلبكي أميري، وكذلك في الندب، كلماته موزونة ولائقة وغنية بالمعاني البليغة، وعمر التراث البعلبكي 700 سنة على الأقل. وأشكر لكم تكريمكم لي وأخص الصديقين المنظمين لهذا الحفل، الأديبين حاتم شريف وحسين رعد، وأنتم تمنحوني المعنويات والإصرار على المزيد من العطاء والإستمرارية”.
وجاء في قصيدة حليحل لمناسبة تكريمه:
“من هون عالكون من مجلس ثقافتنا / لبعلبكي ذاعت بلاغتنا وحصافتنا
وبيت الثقافة كيان بعلبكيتنا / هودي هويّة شهامتنا وثقافتنا
هالقلعتين بحماهم قلعة الرومان / من فوق عمدانها يتشامخو تيجان
فخر الثقافات فخر العلم في لبنان / عنوان تاريخ موطنا وحضارتنا
أما الهياكل عُمَرها يوم كان صغير / توقعت شوفو بهالحجم وبفنّو كبير
هذا حفيد اللي كان النسر لما يطير/ يهدّي على شواربو ويترك شيارتنا
الله ما أعرق الموروث ببعلبك/ كم أذهل وكم جعل من عالم ملبّك
وقدّيش يا دهر من اسرارها بقلبك/ ما خفيت على قيافتنا وعيافتنا
نحنا بنشبه بعلبك في معانيها /وطينة شرفنا الوحيدة اللي بتعنيها
بالسلم نحنا المحبة واللطف فيها / وبالحرب تشبه صلابتها صلابتنا
نحنا التقاليد نحنا الإرث والعادات/ نحنا الرماح وشبا الأسياف بالهيجات
نحنا وعينا وقضينا العمر عاصهوات/ والريح ما قدرت تطارد مهارتنا
نحنا فخر للوطن واللي علينا اعتلّ/ يقشع بنان المجد كل ما علينا دل
نحنا دحرنا دحر عن أرضنا المحتل / ولبنان ما حررو إلا شجاعتنا
يا نصر بالخامس وعشرين من أيّار/ صفّيت عيد الإبا وتحريرنا من العار
أبطال طه النبيّ وحيدر الكرار / وبلون راية ابو السبطين رايتنا
صفرة ترفرف بريح العز ببلادي/ واللي يعادي بلادي بظلها نعادي
وحياة شمخة جبينك يا ابو هادي/ بنصون عهدك وما بنخون لو متنا
لمقاومتنا انت حِرز الحريز وصَون/ وما حد بيقدر على إلغائها بالكون
والكل منا مقاوم والوفا من هون/ وانت يا سيد حسن أدرى بثوابتنا
يا حي نبع الأصالة بعلبك التاريخ / ورجالها روسها بتناطح المرّيخ
أهل الهِمم والشمَمَ ونفوس ما بتشيخ/ اللي كرّمونا ولهم منا محبتنا
ما كرّم الشُمّخ الأُصّل سوى الأُصّل/ وإلا من البحر لؤلؤ ما بيتحصل
والشهم من طيب أهلو ما بيتنصل/ هيدي معاني حميّتنا وأصالتنا
مشكور كل من سعى وكل من أصَرّ واراد تكريمنا واحتفى فينا وأجاد وجاد
تكريمنا في إلو معنى وإلو أبعاد/ تكريم أمجادنا وعوايد الأجداد
تكريم خير الأرض وسواعد الأجداد/ تكريم من خوّضوا بعجّ العجاج جياد
دمتوا ما دامت الهيبة بقوّة الآساد/حماة الأصالة ورسالتنا وهويتنا”.
بيان
ورأت المربية الدكتورة ناديا بيان باسم مجلس بعلبك الثقافي أن “تراثنا الشعبي يتدثر بعباءة الأهازيج والمواويل، فتتولد الألحان على وقع صوت يشنف الآذان، ويناغي الوجدان، ويتغلغل في نجيع الشريان، وتكون الولادة الجديدة. ساعتئذٍ يبحر الفنان والجمهور في يم الجمال وينبثق السحر من حكاية حب خُطت بمداد كلم يلون وجود الأنام، وتنطلق الآهات مترنحة طربا، ومن ثم تغيب في الآفاق، فيشعر المرء بأنه في محراب عبادة”.
وأضافت: “علي حليحل هو من كوكبة المبدعين الخلاقين، لبناني الهوية، عربي الانتماء، بعلبكي الهوى، حليحلي العشرة، إبائي الطبع، ذو الصوت الرخيم والحنجرة الذهبية المزدانة بنمنمات خفية تعجز أصوات كثيرة عن تأديتها، يجذب المستمعين ويدفعهم، دون أن يقصد، إلى معاقرة مُدام الحب الذي يفيض من دنان مواويله”.
وختمت: “علي حليحل شيد مجده على صهوة الزمن، مستحضرا من التراث قلائده الجمانية، سابرا أغواره، متنسما الهيام من حكايات الماضي، معمدا إياها بماء الحياة، أحيا الفولكلور بصوته الذي اتخذ من أعمدة القلعة شموخها، ومن بعلبك عراقتها، ومن ذُكاء مدينة الشمس إشراقتها. فطوبى لمن غرس الفرح في ثرى الفؤاد، وغرف من عطر الفن غرفة حب وأمان”.
رعد
ومن جهته رأى الأديب حسين رعد في كلمته باسم “بيت الثقافة البعلبكي” أن “علي حليحل قرر أن يكون التراث الأصيل حياته وقدره، وكانت مسيرته إلى النجومية بعد أن صقل موهبته اللغوية والأدبية، وكتب الشعر بكل أنواعه: الغزل، الفخر، المديح، الرثاء، الحكم، الفراقيات، وشعر المناسبات الوطنية والدينية. أتقن الدبكة بكل أنواعها ونقلاتها وطلعاتها، رقصت على أغانيه فرقتا كركلا وفهد العبدالله، وغنى له صابر البعلبكي وسمية البعلبكي والقديرة ماجدة الرومي والفنان الكبير زكي ناصيف، أما شاعرة الصوت سفيرتنا إلى النجوم السيدة فيروز عندما سئلت أي صوت تراثي تفضلين، قالت: علي حليحل”.
وأكد أن “المحتفى به واحد من تلك الكوكبة العالية الغالية الغالبة، من الذين تعملقوا كما القلعة، لبسوا الريح، وألبسوا الناس الحرير، تعطروا بماء المزن، وزرعوا العطر في القوارير، هو من الذين وجب وجودهم للحفاظ على التراث وسلطان الصوت والكلمة، لقد أعطي موهبة الجمال، فمشى على بركة العبقرية فأكمل ما فيه أنه طموح على تواضع، وأجمل ما فيه أنه محبة على إيمان، وأبقى ما فيه أنه متمرد على إباء وكرامة، فعبر إلينا على صهيل الغلبة، فالويل من خيله ان أفلتت لجم. ذلكم هو علي حليحل، أبو التراث وأميره، ليس في بعلبك فحسب، بل على امتداد عالمنا العربي”.