أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة، في مقر المجلس، والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “الموضوع الذي سأتناوله في هذا الأسبوع يتمحور حول العلاقات بين الأفراد كأفراد وبينهم كجماعات أو مجموعات، وفي الحالتين كمتجانسين دينياً أو قومياً أو سياسياً أو في غيرها من اشكال التشاكل البشري كالتشاكل في لون البشرة أو مختلفين وهل تختلف طبيعة هذه العلاقات أو تتفق طبقا لهذا التجانس أو الاختلاف؟ ويمكن طرح هذا السؤال بكيفية أخرى وعلى النحو التالي:
هل أن لهذا النحو من التمايز البشري دَخْلٌ في رسم طبيعة هذه العلاقة؟ من المساواة والتفاضل وما شاكل من ناحية الكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات. وهذا السؤال لا يمكن طرحه حول العلاقات التي تحكم الكائنات الاخرى في هذا العالم كالعلاقات القائمة بين أجزاء هذا الكون من أجرامه وكواكبه وأرضه وسمائه الخ… لأنها لا تملك أن تختار نوعية هذه العلاقة ولا قدرة لها على التغيير، وهذا يسري على الكائنات الحية الاخرى لأنه في عالم المادة فهو يجري وفق قانون العلل والاسباب الذي لا حياة فيه ولا عقل ولا روح، وأما في عالم الأحياء غير العاقلة فهي تسير وفق نظام الغريزة المزروع فيها والذي يسيّرها فهي كذلك لا تملك القدرة على اختيار طبيعة العلاقة ولا تغييرها عن الحالة التي طُبعت عليها، أما الإنسان فهو مخلوق من نوع آخر قادر على الاختيار والتغيير بالحدود التي تتيحها الاسباب الطبيعية، فهو ليس لديه القدرة المطلقة على التغيير ولكن لديه القدرة على الاستفادة من القوانين الطبيعية والاستفادة منها لصالحه ولكنه غير قادر على تعطيلها، ومخالفتها ستؤدي إلى الإضرار به، فالسؤال المطروح لا يمكن توجيهه الا إلى الإنسان الكائن العاقل الذي يملك القدرة على الاختيار والتغيير ولو بحدود في طبيعة العلاقة مع الآخر الذي يماثله في هذه الخصائص أفراداً وجماعات”.
اضاف: “نعود إلى أصل الموضوع، فهل للتمايزات البشرية التي تقدّم ذكرها دخل في طبيعة العلاقات الانسانية؟ خصوصا ان هذه التمايزات غير اختيارية ولم يعط الانسان فيها الاختيار حتى في أصل وجوده. والواقع أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف على تحديد طبيعة الانسان وما يتميّز به عن سائر الموجودات في هذا الكون، وهناك نظريتان في هذا المجال:
الأولى: التي تعتمد التفسير المادي للوجود وبالتالي لا محلّ لديها للقيم والاخلاق كمقياس تعتمده للأمور والحكم عليها والمفاضلة بينها على أساس أخلاقي، وإنما تعتمد حسب ادّعائها العقل الذي لا شغل له بغير المحسوسات، وبالتالي ذهبت هذه المدرسة الى إنكار القيم الأخلاقية، وبنت عليه أن الانسان موجود كسائر الموجودات الاخرى غير أنه يمتلك قدرةً أكبر على السيطرة لا يمتلكها غيره تتيح له أن يستفيد منها دون أي مانع أخلاقي يكبحها، وكان من نتاج هذه المدرسة أن المبدأ الفلسفي الوحيد الذي يسيّرها هو مبدأ البقاء للأقوى وهو ما تعتمده الحضارة الغربية في علاقاتها مع الآخرين وتبيح لنفسها على أساسه حروبها واستعمارها واغتصابها واستباحتها كل ما تقدر عليه في هذا العالم من ثروات وأنفس وكل ما ترى فيه بقاءها ولا وجود لمبادئ الحق والباطل والظلم والعدل، وبالتالي فإن كل ما تتبجّح به من شعارات الانسانية وحقوق الانسان ما هي الا شعارات فارغة تتوسّل بها خداع الشعوب، وهو على كل حال تفسير أثبت العلماء بطلانه وهو يحطّ من قدر الانسان إلى ما دون الحيوان.
الثاني: أن الإنسان ليس مجرد مخلوق مادي وان العقل ليس مجرد قوة مادية ميكانيكية لا تدرك سوى المحسوسات ولا تتعامل إلا معها، وإنما ترقى إلى إدراك ما ورائها من الحسن والقبح وان وراء هذا الكون خالقاً وصانعاً هادفاً، وبالتالي فالإنسان محكوم بالقيم الاخلاقية وان مجرد كونه الأقوى لا يبيح له استخدام هذه القوة كيف شاء، وان القوة الحقيقية هي للحق التي غفل المنكرون لها عن ان القوة المادية لم يكن لها الفصل مطلقاً في معركة الوجود، ففي التاريخ كم من التجارب التي خسر فيها من أمتلك القوة المادية في مواجهة الأضعف ولكنه أمتلك قوة الحق، وحركة التاريخ قامت على هذا الأساس”.
وتابع الخطيب: “إنّ كرامة الانسان لا يمكن الا اعطاءها بعدها الأخلاقي، وبالتالي تتضح الإجابة على السؤال المتقدم حول دخل التميّزات البشرية في العلاقات الانسانية وان الاختلاف فيها أو التجانس ليس ميزاناً لطبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الناس أفراداً وجماعات، وان تكون سبباً للتمييز بينهم في الحقوق والواجبات بل على اساس موضوعي وهو مقدار التزام موازين الحق والعدل، فالناس كلهم في ذلك سواء في الحقوق والواجبات. هذا إذا التزمنا التفسير العقلي مطلقاً بغض النظر عن التفسير الديني الذي يعتمد أساساً على العقل في تفسيره للوجود بشكل عام ويضيف عليه ما لا يتمكن من بلوغ معرفته لمحدودية قدرته على ذلك”.
وقال: “وليه، فإن معيار التمايز الديني بين الناس في الحقوق والواجبات ليس في الانتماء الديني أو العرقي أو اللون وإنما في أمر موضوعي وهو التقوى، فعنه (صلى الله عليه وآله) في خطبة الوداع: “يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب”.
وقال صلى الله عليه وآله: “الخلق كلهم عيال الله فأحبّهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله”.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لمالك الأشتر لما ولّاه مصر: “وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ”. وقصته عليه السلام مع طلحة والزبير وامتناعه عن تفضيلهما عن سائر الناس بالعطاء لمجرد السبق في الإسلام والجهاد وموقعهما الاجتماعي معروفة، وكانت سبباً لجفائهما وخروجهما عليه إلى حرب الجمل، وقد كان العدل غايته كيف وهو القرآن الناطق، والحقّ في كتابه الصامت يصدح بالعدل قائلاً: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)”.
اضاف: “كان هذا ميزانه وهو يتصرف مع أقرب الناس إليه وهو أخوه عقيل وقد أملق (نهج البلاغة) قال: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ (اي الليل المظلم الشديد السواد) وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ أَصِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَقَالَ لَا ذَا وَلَا ذَاكَ وَلَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ، فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟”.
واكد ان “هذه أدلة من القرآن الكريم ومن حياة علي يفسره فيها بالعمل ان الناس لا يتفاوتون بالحقوق والواجبات لبَعُدٍ او قُربٍ او لسبقٍ بالإسلام او الجهاد وإنما هم سواء، وأمره مشهور بإعطاء النصراني حقّه من بيت المال ونهيه لهم عن استخدامه وقد عجز”. وقال: “فالاختلاف في الدين او الطائفة لا يعطي امتيازا ًلأحد على أحد في الحقوق والواجبات ولا في الكرامة الانسانية وإنما هم سواء في ذلك والدين انما لأجل الإنسان وكرامته، وقد رسم القرآن الكريم هذه القاعدة عندما قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، ولذلك فإن التمييز بين الناس على اساس الدين واستخدامه ليكون حاجزاً بينهم ليس من الدين في شيء وهو تشويه له وهو عصبية مقيتة”.
اضاف: “للأسف فإن المشكلة التي نعاني منها في لبنان هي في استخدام الدين لأغراض عصبية وسياسية وعنصرية مخالفة له، وهي ما أدت إلى تنامي العصبيات الطائفية بين اللبنانيين وإدخالهم في نزاعات سياسية وعسكرية لمصالح زعامات طائفية مستفيدة من هذا النظام وقودها أبناء الطوائف الذين يدفعون ثمن هذه النزاعات بإسم الدفاع عن الطوائف زوراً من جهدهم وعرقهم وأبنائهم الذين يضطر من ينجى منهم من الحروب اما إلى الهجرة او العيش بالاضطراب والقلق والخوف الدائم على المصير فيما تتكرر الازمات بعد التسويات عند كل استحقاق دستوري”.
وتابع: “لذلك نكرر ان الحل الاساسي بالخروج من الصيغة الطائفية ونظام المحاصصة نهائياً إلى رحاب المواطنة وقد أثبتت التجارب ان الصيغة الطائفية لم تحمِ طائفة كما لم تحمِ وطناً. إنّ العقلية الطائفية المتحكمة ببعض العقول هي التي تصنع مأزق النظام حيث يستعصي الخروج من المأزق اليوم بانتخاب رئيس للجمهورية ويصل الامر ببعض القوى إلى التعبير عن عدم استعدادها إلى قبول الحوار والتوافق مع شركائها في البلد ولو طال الامر سنين، وهو يعبّر عن أزمة معايير أخلاقية ووطنية بالدرجة الاولى وانعدام ثقة في القدرة على التخلي عن التبعية للغرب والذهاب نحو التمسك بالمقاييس الوطنية والهوية المشرقية العربية والانتماء لقضاياها، وهو ما يفسّر الموقف العدائي للمقاومة في الوقت الذي يكاد يكون صريحاً ومتوافقاً مع الموقف الاسرائيلي ومبرراً في أغلب الاحيان لاحتلاله لجزء عزيز من أرضه وللمشروع الغربي الساعي الى تجزئة المنطقة العربية بما فيها لبنان، بل يُصرّح البعض في الذهاب الى هذا الاتجاه ويُسعّر من خطاب المواجهة مع من يختلف معه في هذه المواقف ويتبنى مشروع الدفاع عن لبنان ويرفض الاستجابة لدعوة الحوار لانتخاب رئيس للجمهورية، فهل يُعبّر كل هذا عن موقف وطني مسؤول؟؟ وقد وصل حال المواطنين والبلاد إلى ما وصل اليه، انه الانتحار بعينه”.
وختم: “انّ السيادة والوطنية تحتاج إلى تعقل وحكمة وخطاب توحيدي وهادئ وليس إلى صبّ الزيت على النار، كما يستدعي الاستجابة لصوت العقل وتحمل مسؤولية إنقاذ البلد بالذهاب إلى طاولة الحوار، خصوصاً وان كل الاطراف تحتاج إلى التوافق لإنجاز الاستحقاق ولا تستطيع التفرّد به، وأن نرتقي إلى مستوى المواطن من كفرشوبا الذي وقف بتحدٍّ ببطولة وعَرَّضَ حياته للخطر دفاعاً عن أرضه ووطنه. إنّنا نبارك لكفرشوبا ولأهلها الغيارى ولإبنها البار هذا الموقف الوطني الشريف، ونحن على يقين بأن في هذا الوطن الكثير من الشرفاء الذين هم على استعداد للتضحية من أجل عزة وكرامة وطنهم وأهله”.