أصدر الكاتب والمؤلف نادر سراج كتابه الجديد بعنوان “بيروت: جدل الهوية والحداثة”. قدم للكتاب مدير مركز الأبحاث الفرنسية والأكاديمي فرانك ميرميه، معتبرًا “أن صدور هذا البحث التاريخي واللساني الاجتماعي في هذه الفترة التي تلي انفجار المرفأ في 4 آب 2021 يتخذ أهمية كبرى”ن وكتب:”ونادر سراج يساهم بهذا البحث الذي سيكون له أهمية كبيرة في تاريخ المدن في العالم العربي في الحدّ من التصدعات المتعددة التي يعانيها مخيال سكان المدينة. وهو حينما يعيد بناء هذا الماضي المشترك بهذه الطريقة الرائعة فإنه يشيد من أجل سكان بيروت “مكانًا للذكرى” الإنسانية التي تلامس وجدانهم”.
يرسم سراج، استكمالًا لمشروع معرفي استهله منذ عقد بكتاب “أفندي الغلغول: تحولات بيروت خلال قرن 1854 -1940″، مراحل تدرّج بيروت العشرينيات وما بعدها في سلّم الحداثة الغربية، في مدينة تُعدُّ الأسرع تجاوبًا لإيقاع الجديد والنهوض والتألق. يكتنز الكتاب مشاهد بانورامية موثقة يتشابك فيها التاريخ بالجغرافيا، الاجتماع بالإنسان، والسياسة بمفهومها الرحب بالخصوصية.. وتتمحور فصوله حول التبدلات التي عاشها الناس والمبتكرات الحديثة التي قلبت أدوارًا عند أهالٍ استهدفتهم “مستحدثات العلم المادي” ويسّرت لهم سبل عيشهم.
صراع البقاء والنفوذ بين قيافة عثمانية مدبرة وموضة غربية وافدة تبدت أماراته في شيوع النمط الإفرنكي ومظاهر الفرنجة ونواتج “السلم الفرنسي” وفق مقولة اطلقها الجنرال غورو لدى إعلان دولة “لبنان الكبير”.
عالج الكتاب تفتحات الحداثة وتأتيراتها على ارتقاء الصنائع والعلوم وتعزيز الآداب الرفيعة وانطلاق عجلة التربية والتعليم (نماذج الصنائع والفنون والليسيه الفرنسية والمقاصد والعاملية) وبناء المرافق العامة. كما درس تجليات الثقافة وعاين انبلاج اللغة وسعى لكشف المضمرات وردّ الاعتبار إلى الهوامش ووصل حلقات مفتقدة في التاريخ الاجتماعي للمدينة العربية بنموذجها البيروتي. بقدمين ثابتتين ومتوازنتين بين عمقين متجاورين ومتآزرين: الحفاظ على إرث ثقافي اجتماعي عربي، مديني الهوية والهوى، والنهل بدراية من نواتج حضارة غربية وتنويرية وافدة، استطاعت بيروت أن تبتدع توليفة ذكية توازي بين مساري الهوية والحداثة. تفاعلا في عمل توثيقي استغرق من المؤلف ثماني سنوات ليسرد للقراء “تواريخ صغيرة” لأسلافهم، لأناس وأفراد وشخصيات مغمورة عمرت في سالف الأيام “أنيسة المدن”.
على مدى خمسمئة صفحة استنطق سراج أبطال حكاية التحديث فكشفوا النقاب عن صفحات مطوية وأوراق منسية لبيروت ما بين الحربين ولمدن عربية مجاورة تشاركت وإياها التجارب الحضرية. ميزة الكتاب أنه نخل الفضلات والشوارد والهوامش وجعل منها “عصارة طيبة” وفق تعبير ناسك الشخروب. فحقق بذلك تناغمًا معرفيًا قوامه استقراء تحليلي لأنسجة إثبات وتغيير عثمانية وانتدابية وأسلوب سلس يجمع بين الإناسي والسوسيولوجي واللساني ليروي مسارات المجتمع ومخاض ترسّخ الهوية الوطنية بأبعادها الرحبة والمؤتلفة.