ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين، في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي بما أوصى به الإمام الجواد(ع) أحد أصحابه، وهو الإمام الذي نستعيد ذكرى وفاته في التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام، حين كتب له: “إنَّ أبي شديد العداء لكم، وقد لقيت منه شدّةً وجهداً، فرأيك – جعلت فداك – في الدّعاء لي، وما ترى – جعلت فداك – أفترى أن أكاشفه أم أداريه؟
فكتب (ع): “قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك، ولست أدع الدّعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة، ومع العسر يسر، فاصبر، فإنَّ العاقبة للمتَّقين”.
عمل الشاب بوصية الإمام(ع)، فراح يحسن إلى والده، ولا يبادل إساءته بإساءة، وإن تكلم فبكل أدب وبالتي هي أحسن، ما جعل الأب يعيد النَّظر بتصرفه، حتى لم يعد يعارضه في ولائه، بل أصبح من المحبين والموالين لأهل البيت(ع).
وقال :”إننا أحوج ما نكون إلى هذا الأسلوب الذي دعا إليه الإمام الجواد في تعاملنا مع من نختلف معهم في الدين أو المذهب أو السياسة أو عند أي اختلاف، الذي به نكسب قلوب الناس ونوصل رسالتنا إليهم ونكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من معاناة اللبنانيين المستمرة على الصعيد المعيشي والحياتي، والتي تتفاقم يوما بعد يوم، ما جعل غالبية اللبنانيين غير قادرين على تأمين أبسط مقومات حياتهم وأوصل بعضهم إلى حد اليأس من هذه الحياة وحتى الانتحار، رغم وعيهم لتداعيات ذلك عليهم والعقوبة الشديدة التي يفرضها الله على من يقدمون على ذلك.
رغم كل ذلك يستمر الواقع السياسي على حاله من التردي والانقسام من دون أن تبدو في الأفق أي إرادة جدية ممن يديرون هذا الواقع تخرج البلد من حال الانهيار التي وصل إليها والذي أصبح من الواضح أنه لن يكون إلا ببناء دولة قادرة على إدارة شؤونه بدءا بملء الشغور على صعيد رئاسة الجمهورية وصولا إلى حكومة تحقق النهوض الاقتصادي وتقوم بإصلاحات تعيد الثقة إلى هذا البلد وثقة أبنائه به”.
أضاف :”وبدلا من أن تتضافر جهود كل القوى السياسية لتحقيق آمال اللبنانيين التواقين إلى رؤية بلدهم يسير نحو عافيته، نجد إمعانا في الانقسام ومزيدا من التأزم على الصعيد السياسي، والذي عبرت عنه الجلسة الأخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية التي رغم إيجابية انعقادها، ولكن النتائج جاءت مخيبة لآمالهم وزادت من مخاوفهم وهواجسهم على مصير هذا البلد، بعدما لم تتحقق آمال اللبنانيين منها وبعدما أخذت هذه المعركة بعدا طائفيا ومذهبيا حادا وبدت وكأنها تهدف إلى إقصاء لفريق من اللبنانيين ما يزيد من الشرخ في هذا البلد.
إننا بعد كل الذي جرى، ومع الخشية من أن يستمر هذا الشغور طويلا مع بقاء الواقع المتأزم على حاله وتوهم كل فريق أنه حقق في الجولة الانتخابية الأخيرة انتصارا مبينا، نعيد التأكيد على القوى السياسية التي لا تزال ترى أن خيارها هو الاستمرار في معركة التحريض والتجييش لكسب مزيد من الأصوات بما يحقق لها الغلبة… أن يتخلوا عن مثل هذه الرهانات الخاسرة والتي تهدد وحدة البلد ومصيره، وأن يوفروا على الوطن هذا الوقت الذي يستنزف ما تبقى من رصيده ومن قدراته وأن يسارعوا إلى الحوار في ما بينهم للوصول إلى صيغة توافق تنهي هذا الشغور، بعدما ثبت مجددا بأن لا قدرة لأي فريق من الفرقاء على أخذ البلد إلى حيث يريد أو فرض خياره للرئيس الذي سيحكم البلد في المرحلة القادمة”.
وتابع السيد فضل الله:”إن على هذه القوى أن تستفيد من فرصة تلاقي الخارج على دعوة اللبنانيين للإسراع بتحقيق هذا الاستحقاق وترك الخيار لهم، وفي أنه لم يعد عائقاأمام تحقيق توافقهم، وأن تنعكس الأجواء الإيجابية الحاصلة في الخارج في دفع اللبنانيين لتعزيز لغة الحوار في ما بينهم وتساهم في توفير آلياتها”.
لقد آن الأوان لانتهاء مأساة وطن تتداعى أركانه وآلام شعب لم يعد قادرا على تحمل المزيد منها ووصلت إلى تهديد إدارات الدولة ومؤسساتها والبقية الباقية من مقدراتها وإلى المس بالاستقرار الأمني.
إننا لا نريد للبنانيين الذين يفدون إلى بلدهم زرافات ووحدانا لقضاء عطلة الصيف مع أهلهم رغم معرفتهم بمدى المعاناة التي يواجهونها، تعبيرا عن حبهم وولائهم لوطنهم أن يروه على هذه الصورة المأسوية حيث لا ماء ولا كهرباء ولا أي من متطلبات الحياة التي تتوافر في بلدانهم، ما يؤدي إلى زيادة إحباطهم ويأسهم واتخاذ القرار الذي لا يريدونه بعدم العودة إليه”.
واردف فضل الله :”هنا لا بد من التقدير للدور الكبير الذي قام به الاغتراب اللبناني ولا يزال، رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها في بلاد الاغتراب بفعل هذا التوتر الحاد الذي يعيشه الوضع الدولي بعد أحداث أوكرانيا.
في هذا الوقت، تعود إلى الواجهة معاناة المودعين الذي بلغ بهم اليأس إلى حد استعمال العنف الذي لا نريده ولا يريدونه، ما يدعو إلى علاج هذه القضية وإشعار المودعين بأن هناك أمل بعودة أموالهم إليهم ولو بعد حين، حتى لا يدفعهم اليأس إلى التصرف بما لا تحمد عقباه”.
وختم فضل الله :” نقف أخيرا عند بدء موسم الحجّ، حيث بدأ الحجاج يتوافدون لأداء هذه الفريضة المباركة، والتي من خلالها يعززون علاقتهم بربهم ويؤكدون وحدتهم وتلاقيهم رغم اختلافهم في البلدان أو تنوع مذاهبهم وآرائهم، في طوافهم وسعيهم وفي كل مواقعهم، ويعززون بذلك قوتهم وإحساسهم بما يجمعهم، سائلين المولى أن يعنيهم على أداء مناسكهم وأن يرجعوا إلى بلادهم غانمين بما وعدهم الله به وأن يتقبل طاعاتهم وعباداتهم”.