القى البروفسور حسان يوسف مخلوف استاذ علم النبات والتربة في الجامعة اللبنانية، محاضرة حول تأثير الفوسفور الابيض على الحقول الزراعية وطرق معالجته عبر ب”رنامج التعليم عن بعد ، شارك فيها عدد من الأساتذة والمختصين والطلاب.
بعد كلمة ترحيبية وتعريف بأهمية المحاضرة القى مخلوف محاضرته وقال فيها: ” الفوسفور الأبيض هو مادة كيميائية مكونة من 4 ذرات فوسفور (P4) شمعية شفافة، شديدة الاشتعال عند أحتكاكها بالهواء، وتتميز بلونها الأبيض المصفر. عند أحتكاكه مع الهواء يتحول إلى بنتوكسيد الفوسفور (P2O5) وينتج عنه حرارة شديدة ودخان كثيف. اكتشف الفوسفور الأبيض لأول مرة في عام 1669، واستخدم في عدة تطبيقات صناعية وعسكرية، أبرزها في الأسلحة الحارقة والذخائر الكيميائية. ورغم أن الفوسفور الأبيض له استخدامات صناعية متعددة، إلا أن استخدامه في الحروب، خاصة في المناطق السكنية، أثار جدلاً كبيرًا في إطار القانون الدولي. فقد حظرت اتفاقية الأسلحة التقليدية بعض أشكال استخدامه نظرًا لما يسببه من تدمير للبيئة والمجتمعات المدنية إلا أنه لا يعتبر كسلاح كيميائي بالمعنى المباشر كونه لا يعتبر من الغازات السامة لكن حظر أستعماله على المناطق المأهولة”.
أضاف :”في الأراضي التي تصاب بالفوسفور الأبيض، يتسرّب هذا الأخير في صمت، إلى داخل التربة ليترك وراءه أثرًا غير مرئي لكنه مدمر. هذا المركب الكيميائي الذي يُستخدم في الحروب لتغطيى ساحة العمليات العسكرية هو أكثر من مجرد سلاح، كونه يتسبب بتأثيرات تدميرية على التربة الزراعية التي كانت تعتمد من أهم الأصول في مجموعة الموارد الطبيعية المطلوب الحفاظ عليها.
وحول آلية التسرب إلى التربة والتفاعلات الكيميائية، يتفاعل الفوسفور الأبيض مع الأوكسجين في الهواء ليكوّن أكسيد الفوسفور، والذي يتراكم في التربة تدريجيًا. لكن هذا التفاعل لا يتوقف عند هذا الحد، فهو يتفاعل بعد ذلك مع المياه الموجودة في التربة ليشكل حمض الفوسفوريك، ذلك الحمض القوي الذي يعيث فسادًا في تركيبة التربة، مغيرًا خصائصها.
وتابع :” بالواقع، تبدأ التربة في الخضوع لتغيرات فيزيائية وكيميائية تؤثر بشكل مباشر على قدرتها على دعم الحياة النباتية. تكون السموم الناتجة عن هذه التفاعلات أكثر تأثيرًا مما يمكن تخيله. تتغير التربة، تصبح أكثر حموضة مع مرور الوقت، حيث ينخفض مستوى pH، مما يجعل البيئة غير صالحة لعدد من النباتات التي تحتاج إلى تربة أقل حموضة. ويصبح من الصعب على التربة الاحتفاظ بالعناصر الغذائية الأساسية التي تعتمد عليها النباتات للنمو، مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فزيادة الحموضة تمنع النباتات القلوية من النمو. كما أن تفاعلات الأملاح المعدنية مع بعضها البعض تجعل من المستحيل على النباتات امتصاص العناصر المغذية، مما يؤدي إلى ضعف النمو. وتزداد الأمور تعقيدًا عندما يبدأ الفوسفور الأبيض في تحطيم مركبات النيتروجين، التي تعد أساسية لحياة النباتات، مما يقلل من توفر النيتروجين في التربة. في بعض الحالات، قد يؤدي هذا التفاعل إلى فقدان الفوسفور نفسه، مما يزيد من تفاقم أزمة التربة.
كما يطال الفوسفور الأبيض قدرة التربة على توفير البوتاسيوم للنباتات. وبذلك يصبح النمو النباتي أضعف، وتقل جودة المحاصيل بشكل ملحوظ. الثمار التي كانت يومًا ما كبيرة وطازجة تصبح أصغر وأضعف. الأرض التي كانت مزدهرة ستعاني من جفاف داخلي، وكل ذلك بسبب مادة واحدة: الفوسفور الأبيض. إنه يتسبب بتدمير التربة الزراعية ويترك وراءه أرضًا لا تستطيع أن تعيد الحياة إلى نباتاتها، وتصبح غير قادرة على الوفاء بدورها كحاضنة للحياة”.
واستطرد مخلوف:”في جنوب لبنان، حيث تعرضت بعض المناطق للقصف باستخدام الفوسفور الأبيض خلال الحرب الدائرة منذ أكثر من سنة، كانت التأثيرات واضحة على الأراضي الزراعية وقد قدرت المساحات التي تعرضت للتلوث بالفوسفور الأبيض بأكثر من 2500 هكتار. تلوثت التربة وتعرضت للضرر، مما أثر على الإنتاج الزراعي وعلى الحياة البيئية بشكل عام.
تتطلب معالجة التربة الملوثة بالفوسفور الأبيض تقنيات متقدمة وإجراءات دقيقة نظرًا لسمية الفوسفور الأبيض العالية وقابليته للاشتعال عند تعرضه للهواء. هناك عدة طرق لمعالجة التربة الملوثة بالفوسفور الأبيض، تتراوح بين الحلول التقليدية والابتكارات العلمية، كما يلي:
إزالة التربة الملوّثة: في بعض الحالات، يمكن أن يكون إزالة التربة الملوثة بالفوسفور الأبيض هو الخيار الأفضل. يتم جمع التربة الملوثة ونقلها إلى منشآت متخصصة لمعالجتها بعيدًا عن المنطقة المتضررة.
التحكم في الأكسجين: بما أن الفوسفور الأبيض يتفاعل بشكل قوي مع الأوكسجين، يتم غمر التربة بالماء لمنع تفاعل الفوسفور مع الهواء، مما يقلل من خطر الاشتعال، على الرغم من أنه لا يقضي على التلوث تمامًا.
التخلص الحراري: تتضمن هذه الطريقة حرق التربة أو المواد الملوثة في منشآت خاصة مع التحكم في الغازات السامة الناتجة عن الحرق. على الرغم من أنها عملية مكلفة ومعقدة، إلا أنها فعّالة للغاية في تفكيك الفوسفور الأبيض.
التثبيت الكيميائي: في بعض الحالات، يمكن استخدام مواد كيميائية مثل أكسيد الحديد أو الكالسيوم لتثبيت الفوسفور الأبيض، حيث تتفاعل هذه المواد مع الفوسفور الأبيض لتكوين مركبات غير قابلة للذوبان، مما يمنع انتشار التلوث في البيئة.
عزل المنطقة: في بعض الحالات، يمكن عزل المنطقة الملوثة بشكل مؤقت لمنع انتشار الملوثات إلى المناطق المجاورة، مما يتيح للطبيعة فرصة لمعالجة التلوث بشكل طبيعي.
المعالجة الحيوية: يعتمد هذا الأسلوب على الكائنات الحية الدقيقة لتحليل الفوسفور الأبيض، وهو أسلوب يعد الأمل الأكبر في المعالجة المستدامة.
وتعتبر المعالجة الحيوية أو التخلص البيولوجي من أبرز الحلول لمعالجة التربة الملوثة بالفوسفور الأبيض، وهو يعتمد على استخدام الكائنات الدقيقة النافعة (البكتيريا والفطريات) لتحلل الفوسفور الأبيض في التربة. طورت هذا التككنولوجيا من قبل البروفسور حسان مخلوف، أستاذ علم التربة في الجامعة اللبنانية، حيث تم تحضير مجموعات من الكائنات الدقيقة النافعة لتحارب تلوث التربة الزراعية وتعيد تأهيلها.
عند تطبيق هذه الكائنات الدقيقة على التربة الملوثة، تقوم البكتيريا بتحليل الفوسفور الأبيض وتحويله إلى مركبات فوسفورية قابلة للاستخدام، مثل H?PO?? و HPO?²?. هذه المركبات لا تشكل خطرًا على البيئة أو الكائنات الحية، بل تصبح مصدرًا غذائيًا للنباتات والكائنات الدقيقة.
للمعالجة الحيوية عدة فوائد:
1- سرعة وفعالية: مع مرور عدة أشهر من المعالجة، يتم التخلص من سمية الفوسفور الأبيض وتعود التربة إلى حالتها الطبيعية.
2- استدامة بيئية: المعالجة الحيوية تضمن حلاً بيئيًا مستدامًا، حيث تستخدم الطبيعة نفسها – عبر الكائنات الدقيقة النافعة – لحل المشكلة، ما يجعل هذه الطريقة أقل تأثيرًا على البيئة وأقل تكلفة مقارنةً بالطرق الأخرى.
3- إعادة تأهيل التربة: بفضل هذه التكنولوجيا، يمكن استعادة التربة الزراعية الملوثة واستخدامها مرة أخرى للزراعة، مما يحسن الإنتاجية ويحافظ على الصحة البيئية.
تعتبر التكنولوجيا الحيوية في هذا السياق الحل الأمثل لمعالجة التربة الملوثة بالفوسفور الأبيض، لأنها ليست فقط فعّالة ولكنها أيضًا تساهم في الحفاظ على البيئة بشكل مستدام.