
القت عقيلة رئيس مجلس الوزراء سحر بعاصيري كلمة في احتفال تخرج طلاب جامعة القديس جاورجيوس قالت فيها:
“يشرفني ان أكون جزءا من هذه اللحظة المهمة في حياتكم..اهنئكم من قلبي ليس فقط على ما أنجزتموه، بل على ما أصبحتم عليه.
فاليوم ليس احتفالًا بالشهادات فحسب، هو احتفال بنتيجة تعبكم وبإرادتكم وبالأحلام التي تجرأتم على التمسك بها رغم كل الصعوبات التي رافقت حياتكم ولاسيما سنواتكم الجامعية”. آملة ان “نكون نحتفل بإيمانكم بأن لبنان لا يزال يستحق العناء والبناء”.
أضافت: “ترددت في تحديد ما أقوله لكم اليوم، وحاولت الاستعانة بالخطاب الذي سمعته يوم تخرجي، فلم اتذكر منه شيئا. وتأكدت من صحة نظرية سمعتها في هذا الشأن قبل سنوات. أدركت أن ما يبقى في الذاكرة ليس الخطابات، بل اللحظات والاثر الذي تتركه. لذلك سأكون سعيدة إن تذكّر أحدكم يومًا ما كلمة او فكرة اقولها”.
وتابعت: “تقفون اليوم على عتبة جديدة. صفحة بيضاء تنتظر أن تخطّوا عليها فصولكم الخاصة. وأعرف أن هذا الشعور، رغم الفرح، يحمل شيئاً من الحيرة، وربما القلق: ماذا بعد؟ كيف نبدأ؟ إلى أين نمضي؟
لست هنا لأقدّم لكم نصائح او إجابات جاهزة. فالحياة لا تأتينا مع كتيب تعليمات لنفعل هذا ولا نفعل ذاك. كل منا يكتب قصته بطريقته وحسب قناعاته. لكنني سأشارككم بعض ما تعلمته من خلال مسيرتي في الصحافة والكتابة، وفي عملي الديبلوماسي، وقبل أي شيء من خلال كوني انسانة تبحث عن معنى في ما تفعله”.
واردفت بعاصيري : “قبل 45 سنة تماما كنت اجلس مكانكم انتظر ان اتسلم شهادتي. كانت حياة جيلي كلها علامات استفهام. كنا في سنوات المراهقة عندما بدأت الحرب، وظلت الحروب الصغيرة والكبيرة تتوالى. كان جيلنا يبحث دون جدوى عن امل. رفاق وزملاء يغادرون بلا عودة في الأفق. مع هذا – وربما كنت محظوظة- كانت فرحتي لا تسعني ليس لأنني سأتسلم الشهادة بل لأنني كنت اعرف انني سأبدأ عملي في المهنة التي اخترتها مدخلا لمحاولة فهم ما يحصل في لبنان: الصحافة، وفي الجريدة التي كان كل صحافي يومها يحلم بالعمل فيها: النهار. شغفي بمهنتي لم يتغير لحظة. ولم تقلل منه لا الحروب ومآسيها ولا التحديات والمخاطر اليومية ولا الخيبات الكثيرة والخسارات العديدة لزملاء واحباء. بل كل هذا زادني شغفا وتمسكا بمعنى ما افعل”.
وقالت: “هذه كانت تحديات عامة. لكن كنت أيضا اواجه تحديات من نوع مختلف لكوني امرأة دخلت الى مهنة كانت غالبا للرجال وحصرا لهم في موقع المسؤولية. امرأة لم تكتف بذلك، بل “تطاولت على ما ليس للنساء” في إصرارها على كسر الصور النمطية في الصحافة. نجحت وتوليت موقع قرار ثم كتبت الافتتاحية قرابة 15 سنة”.
اضافت: “لا أقول هذا لأمدح نفسي بل للتأكيد على ان الاصرار والجهد شرطان للتقدم وللفرص. ولولا وجود اشخاص يؤمنون بذلك لما كانت فرصتي ممكنة. وسأظل ممتنة لكبيرين في المهنة: استاذي غسان تويني رحمه الله واستاذي فرنسوا عقل اطال الله بعمره.
ثلاث كلمات من هذه التجربة أعطت مفعولها معي واتمناها لكم: الشغف، الايمان والصدق. الشغف بما تفعلونه، لأنه يمنح العمل معنى،
والإيمان بأنّكم قادرون على التأثير، والصدق مع أنفسكم، لأنه أساس النجاح. واكتسب هذا الامر بُعدًا أوسع خلال سنوات تمثيلي للبنان في منظمة اليونسكو. فمن موقعها عند تقاطع التعليم، والعلوم، والثقافة، تُذكّرنا اليونسكو بأنّ التقدّم الحقيقي لا يُقاس بالأرقام والنسب فقط، بل بالكرامة، والمعرفة، والارث المشترك. ففي عالم تُديره الخوارزميات، تُصبح الثقافة والتعليم علما للحياة، لا ترفًا. لماذا؟
لأنّ التكنولوجيا تُنتج آلات بكل ذكائها المتسارع، لكن التعليم يبني العقول التي تصنعها. ولأن العلوم تشرح العالم، لكن القيم تعطي الشرح معناه. ولأن الهويات تُفرّق، لكن الثقافة توحد. ولبنان غنيّ بالثلاثة، بالتعليم بالقيم بالثقافة” .
وتابعت: “أعرف أنّ هذا قد لا يكون لبنان الذي ترونه دائمًا في الأخبار، لكن أدعوكم إلى نظرة ثانية: هناك لبنان آخر، ينهض بهدوء وثبات وصبر. واراكم فيه:
لبنان الشباب الذين يبتكرون في العلوم والطب والتكنولوجيا من لا شيء
لبنان المرأة التي تدخل بقوة الى كل المجالات فتصنع الفرق لنا جميعا. لبنان الكتاب والفنّانون الذين يصونون ذاكرة الوطن ويرسمون ما قد يكون عليه واليوم، للمرة الأولى منذ وقت طويل، هناك نافذة صغيرة — قد تبدو هشّة لكنها حقيقية — نحو بناء جديد للبنان، لا يقوم على الحنين والذكريات، بل على الارادة والوضوح. وهذا يعني انكم لا تتخرجون الى فراغ بل الى فرصة. وشهادتكم ليست نهاية، ولا أقول بداية، بل هي أداة. أداة لفهم الواقع وتغييره”.
وختمت بعاصيري متوجهة للخريجين:” أعزائي الخريجين، عزيزاتي الخريجات، لا بأس اذا شعرتم ببعض الضياع. المهم الا تخلطوا بين الضياع والضعف. أنتم أقوياء. أنتم مُجهّزون…وقبل كل شيء، انتم حاجة للبنان. كل جيل في لبنان حمل شعلة. أحيانًا خفَتَت، وأحيانًا أخرى انطفأت. الآن جاء دوركم لحملها فاحملوها نحو فجر جديد. ابدأوا. لا تخافوا الفشل او تغيير الطريق. فالهويّة ليست قالبًا، بل رحلة.
اكتبوا قصّتكم. لا كما يتوقعها أحد منكم، بل كما تحلمون. فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من التكرار، بل إلى من يجرؤون على التغيير. مبروك لكم. الآن تبدأ الحكاية. فاكتبوها بثقة ولا تترددوا” .