ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: “خصصت كنيستنا المقدسة الأحد الرابع من الصوم لتذكار القديس يوحنا السلمي، الذي كان راهبا كرس نفسه للصلاة، زاهدا بكل ما يبعد الإنسان عن الله، حتى غدا ملاكا أرضيا أو إنسانا سماويا. وقد ترك لنا كتاب «السلم إلى الله» أو ما يعرف بسلم الفضائل، وهو كتاب عن الحياة في التوبة والإرتقاء بالفضائل إلى كمال المحبة. هذه السلم مؤلفة من ثلاثين درجة، تدل الرهبان إلى كيفية السلوك في درب الملكوت. إلا أن جميع المؤمنين يستطيعون الإفادة من هذا الكتاب من أجل ارتقاء السلم المصعدة إلى السماء، كل بحسب خبرته الروحية المترافقة مع إرشاد أب روحي”.
أضاف: “يتطرق القديس يوحنا في سلمه إلى الأمور التي تعيق المؤمن عن إكمال مسيرته نحو ملكوت السماوات، مثل حب الذات والكبرياء وكثرة الكلام والكذب وحب المال والشهوة، كما يتحدث عن الفضائل التي على النفس البشرية المسيحية أن تتحلى بها، كالزهد والصمت والوداعة والبساطة والتواضع والتمييز، وأعظمها المحبة. يقول القديس يوحنا: «الكذب يطفئ المحبة». فعل الكذب ممقوت من الله، والكتاب المقدس يدين الكاذبين والمتكلمين بالغش، لأن إبليس هو «كذاب وأبو الكذاب» (يو 8: 44). فمن أراد أن يكون ابنا حقيقيا لله، عليه أن يتكلم بالصدق، صائنا لسانه عن الشر، وشفتيه عن التكلم بالغش (مز 34: 13)، لأنه يعلم أن الرب يبغض شفاه الكذب، ويرضى عن العاملين بالصدق (أم 12: 22)، كما يدرك أن «الكذب عار قبيح في الإنسان، وهو لا يزال في أفواه فاقدي الأدب» (يش 20: 26). «الطفل لا يعرف الكذب، وكذلك النفس المنزهة عن الشر» يقول القديس يوحنا ويلمح إلى أنه يجب عدم التسامح مع الكاذبين وما يدعوه البعض «كذبة بيضاء»، ظانين أنهم بالكذب يصلحون المواقف الصعبة، فينتهي بهم الأمر في دوامة من الكذب لا تنتهي، وبدل الإصلاح يحل الهلاك. لذلك، يحثنا القديس يوحنا على الابتعاد عن الكذب لأن ذلك دليل على مخافة الرب، فيقول: «من امتلك مخافة الرب تغرب عن الكذب، حاويا في داخله قاضيا لا يرشى، أعني وجدانه». إذا، على الإنسان أن يصغي إلى صوت الله في داخله، صوت الضمير، لكي يكتسب عفة اللسان. و«من يحفظ فمه ولسانه يحفظ من الضيقات نفسه» (أم 21: 23)”.
وتابع: “يأتي القديس يوحنا على ذكر موضوع آخر، هو «حب المال» الذي يعتبره «أصل كل الشرور وهو بالفعل كذلك لأنه يولد البغضاء والسرقات والحسد والفرقة والعداوات والإضطرابات والحقد وقساوة القلب والقتل». يقول: «بدء حب المال التذرع بالإحسان إلى الفقراء، ونهايته مقت الفقراء». ويتابع: «ما دام محب المال يجمع، فهو رحوم، ومتى حضرت الأموال، أطبق عليها يده». يهوذا، الذي كان يدعي توزيع الأموال على الفقراء، أراد منع مريم المجدلية من مسح قدمي المسيح بالطيب، من أجل أن يبيع الطيب ويستولي على ثمنه بحجة مساعدة الفقراء، ثم ما لبث أن باع المسيح نفسه بثلاثين من الفضة. هذا ما يفعله مسؤولونا، ومعظم التجار والمحتكرين الذين يجمعون ثرواتهم على حساب آلام الشعب. يقول الرسول بولس: «أما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء، فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة، تغرق الناس في العطب والهلاك، لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي متى ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1تي 6: 9-10). محبة الفضة جعلت التلميذ يسلم المخلص، واليوم محبة المال تؤدي ببعض البشر إلى إيذاء إخوتهم في الإنسانية، أما عدم الحصول على المال فيؤدي بآخرين إلى إيذاء أنفسهم إن بواسطة الأعمال الباطلة، أو عبر إنهاء حياتهم بسبب اليأس”.
وقال: “الكذب ومحبة المال، الآفتان اللتان حذر منهما القديس يوحنا السلمي استنادا إلى الكتاب المقدس ووصايا الرب، تجتاحان بلدنا منذ عقود. معظم مصائب الشعب كانت نتيجة للوعود الكاذبة التي أطلقها مرشحون لشتى المناصب، فأمل الشعب تغييرا على أيدي الواعدين، وفي كل مرة كانت الآمال تخيب وما زالت. لا ينفك الكاذبون من إطلاق التطمينات الواهية، وبث الآمال الكاذبة. إلا أن المشكلة الأكبر هي في شعب يعرف أنهم يكذبون ولا يحاسب ولا يطالب خوفا من حرمان أكبر. لذلك نضم صوتنا إلى أصوات المنادين بوجوب توبة كل مسؤول وعودته إلى طريق الرب المستقيم، لأن التوبة، كما يقول القديس يوحنا السلمي، هي «عهد مع الله لبدء حياة أخرى… إنها مصالحة مع الرب بعمل الصالحات المضادة للزلات السابقة»، وكل من يتصالح مع الرب، لا بد من أن يتصالح مع أبنائه، المخلوقين على صورته ومثاله، ويمتنع عن إيذائهم مبتعدا عن الحقد والشر والنميمة والخداع وحب الذات والمال وكل آفة تبعد الإنسان عن خالقه وعن إخوته، فتستقيم الأمور وتتجه نحو الأفضل للجميع. وكما يقول القديس يوحنا: «ليكن لنا ضميرنا بعد الله رقيبا ومرشدا ومقياسا في كل شيء، حتى إذا عرفنا مهب الريح رفعنا أشرعتنا مقابلها”.
أضاف: “هنا أود أن أعلن عن حزني وأسفي لما حصل بالأمس بشأن التوقيت الصيفي الذي تحول إلى تباين طائفي فيما لا علاقة للدين والطوائف به، بل هو أمر متعارف عليه عالميا ومعمول به في لبنان منذ عقود. هل يحتاج لبنان إلى عزل نفسه أكثر والابتعاد عن العالم حتى بالتوقيت؟ ألا يكفي اللبنانيون ما يعيشونه من مشاكل لتضاف إليها مشكلة الوقت؟ أليس الأحرى بالمسؤولين الاهتمام بكيفية الخروج من الكارثة التي أوقعوا البلد فيها عوض إثارة لغط حول تغيير الساعة؟ مسكين بلدنا. وكم يحتاج إلى قامات وطنية تحكمه”.
وتابع: “في التهيئة للصوم علمتنا الكنيسة أن التواضع هو الباب الإلزامي لدخول الملكوت، وها هو القديس يوحنا يحثنا، فيما نشارف نهاية الصوم، على الوداعة والتواضع والتوبة قائلا: «التوبة تنهض الساقط والنوح يقرع باب السماء ولكن التواضع المقدس يفتحه» ويضيف: «المتكبر يدين غيره طول النهار، وغير المتكبر لا يدين أحدا ولكنه لا يدين ذاته. أما المتضع فيدين ذاته كل حين وهو غير ملام”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نتسلق السلم الموصلة إلى السماء، وهذا لن يحدث إلا من خلال الغلبة على الأهواء والشهوات، ونبذ الأحقاد والخصومات، والتوبة والرجوع إلى درب الصالحات. لقد وضع لنا المسيح صليبه سلما مصعدة إلى السماء، فلنصلب إذا خطايانا، ونتابع صيامنا باجتهاد وشوق للوصول إلى ميناء القيامة البهية، حيث نظهر مستحقين المشاركة في المائدة السرية، سامعين صوت الرب الحلو قائلا: «اليوم تكون معي في الفردوس… أدخل إلى فرح ربك…».